إحصاء القتلى يرعب. القتلة نادراً ما يعمدون إلى ذلك؛ لأنه يذكرهم بدمويتهم وينشط شهوتهم وهم في غنى عن ذلك حين تترى البراكين وألسنة الغضب وهيجانه. لا ندم في الأمر. الذي يوغل في الدم لا يعرف إلى الندم سبيلاً. وحدهم ضحايا القتل الذين يعمدون إلى الإحصاء؛ لا ليرتعبوا؛ بل ليتذكروا أنهم مروا من هنا. من لحظة فارقة بين أن يكونوا أو أن يصبحوا جزءاً من العدم ودليلاً عليه.
للقتلة قدرة فائقة على النسيان، وذلك ما يساعدهم ويحفزهم على مزيد من عار/ موهبة القتل. وللضحايا قدرة فائقة أيضاً في سهرهم وحرصهم على عدم النسيان. نسيانهم يعني صك اعتراف ببراءة القتلة، ومباركة لاستئناف المزيد من القتل.
الإحصاء في تنظيم الدول يتتبع الأنفس - بالدرجة الأولى - التي في عداد نبض الحياة؛ لكن إحصاء الذين وظيفتهم إرجاع الحياة إلى سيرتها الأولى، سيرة همودها وجمودها، لا يهمهم من قريب أو بعيد مثل ذلك الإحصاء. وظيفتهم أن يتركوا الضحايا والقتلى في طوابير بطول العذابات التي لا تنتهي، ولن تنتهي.
عاطفيون حد النسيان هم. عاطفيون إزاء نرجس الاعتذار في خريفه وخناجره. تأخذهم الكلمات حين ترجرج عاطفتهم وتهزها من جذورها. يصبح معنى الذين أسرفوا في القتل قابلاً لإعادة النظر في توصيفه. قابلاً للتعامل معه كالعادي من الصفات والعادي من الأحلام والأوهام في الوقت نفسه، والعادي من سبق وإصرار وترصد الفعل.
يصحون في اليوم الآتي، يعيدون إحصاء قتلاهم والذين تم تسليمهم للاستباحات والكسر «المقدس» لأرواحهم ومشاعرهم وقيمتهم؛ وكأن القتلة بذلك يدفعون زكاة إسرافهم في الدم. هل لسفك الدم بعد سكرة أو قيلولة زكاة؛ وخصوصاً في إلإسراف فيه ولو في محاولة للتخلص من صداع عابر؟! يسأل أحدهم وقد تأخر عن دفع زكاة الفطرة ليومين لأنه كان مشغولاً بمواراة قتلى لم يسعفه الوقت كي يأخذ قيلولة بالقرب من شاهد قبر؛ لأن القتلة في «المقدس» من الانتهاك مشغولون بتقديم مزيد من تقارير حصادهم وإلا أصبحوا خارج المعنى والتاريخ، ويتوقف مستقبلهم على مزيد من زلزلة الرعب وخريطته ومن بداخلها.
عاطفيون حد الرماد. لا عين للرماد. الرماد لا يبصر ما عداه من ألوان. عاطفة كتلك تدفع بك إلى مزيد من تفتح شهوة الحرائق. ثمة التباس في إحصاء القتلة. التباس يمس ما يريدون إحصاءه بطمأنينة زائفة. إحصاء ضحايا وقتلى اصطناعيين. لا تحتاج إلى أن تمتحن رعبك في هكذا إحصاء؛ لأنك ستنسب قتلاً لم يحدث. لم ترتكبه أساساً؛ لكن المفارقة أنه في ظل إحصاء كذاك يفيض بالغربان وإيقاع المكر، يطل الضحايا في ذروة مشهد رديء في شخوصه وعلاماته. يربكون كل ذلك. هنا فقط يتولد رعب ليس بالضرورة أن يحسم الاصطناع في الموقف، وإرجاعه إلى وضوحه وإشهاره وبلاغته الركيكة والزائفة. يكفي أن الذين يحصون ضحاياهم يفعلون ذلك من دون ارتجاف روح وإن ارتجفت أنامل؛ فيما الذين يحصون ضحاياهم الاصطناعيين ترتجف الأرض من تحت أرجلهم ومن فوقهم لفرط الإفك قبل أن يرتجف عصب في خشبهم المسندة. وهل ترجف الخشب من دون أن تكون مسندة أساسا؟
إحصاء القتلى لا يرعب الضحايا، إنه الكابوس والشبح الذي يطلع حتى من مسامات الهواء، وكل إيقاع يلجأ إليه القتلة لينسوا بتبادل أنخابهم قبل ساعات من ارتكاب «جماليات» وجودهم متوهمين إياها؛ سيلطخون ألوانها ريثما ينهون صخب رؤوسهم ويأوون إلى غدر الإخوة والتشبث بالإفك الأزلي افتراء على براءة الذئب!
الحياة تحتاج الطيبين والسذج في الوقت نفسه، ربما تعمر بهم؛ ولكنها من دون ريب لن تعمر بقتلة لا يهمهم في أغلب الأحيان إحصاء الكوارث والقتل الذي يخلفونه وراءهم كلما جاسوا خلال الديار، وجاسوا خلال أوهامهم وشهواتهم وحرصهم على غروب ما عداهم، وتكريس حضورهم في «رابعة» الزمان والمكان. ربما يكون الضحايا في عاطفيتهم حد الرماد؛ لكنهم من دون أدنى شك يملكون ذاكرة تظل مرجعاً لكل ألوان وسعة الرؤية والمدى الذي لن يتوافر لدى من هم في الصميم من رمادهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق