الأحد، 25 يناير 2009

عبثا نحاول..




النسيان ترياق لا يجيء عندما ننشده،
بينما هو الأول حضورا حينما لا نشعر برغبتنا به..
نحن في المهب تأخذنا نيران الكلمات إلى حيث الذاكرة
نغامر كي ننسى ولا تسعفنا الأماكن، فنجد في الروح متسعا للتذكر..
***


الأماكن تأخذنا إلى من لا نريد تذكرهم، كلما مررنا بها،
والشوارع لا تتذكر سوى "استيقاظة من حضن علني"
غررت بالوقت - ذات تسكع - فانتبه..
ليعلن أن الوصل قد أفل..
***


بين طبقات القرب "العليا والأرضية"،
اتشحت الأرواح بتألق لم يُلْحَظ قبل أوان الرحيل
هناك في الزاوية الأخيرة:
كانت قطرات الشراب تخجل من الكأس الفارعة في الدفء
كلما حملتها نداها باردا..
***
كل الأحلام ترتجيهم، والواقع دونهم مس من وله
هم البياض الذي ارتسم قرب الموج حضنا ذات شتاء
هم الغربة التي باتت وهما ذات حقيقة..
***
كلما نهض الورد من حروفهم، تناثرت الذكرى أدمعا..
هل تنتهي هذي الحكاية وينتصر النسيان؟
***
النسيان قد يجيء ولكن عندما نصبح خبرا لكان..
هو الأخير في الأذهان عندما يلف الكفن
والأول عندما يوضع شاهد القبر..

الاثنين، 19 يناير 2009

انتماء أم تماهٍ




هل للجماعة أنا فردية ؟
هل يستطيع كل منا أن يكون أناه بكامل عبثيتها ونزقها وجنونها وتطرفها وعقلها في كل وقت؟
لو كنّا نصرح بالإجابة لاختلف الأمر من الجذور!
***

الجماعة هنا ليست بالضرورة جماعة دينية، أعنيها هنا جماعة إنسانية بالدرجة الأولى، وقد تسعى لتحويل سلوكها فيما بعد إلى سلوك ديني يتبنى أيديولوجيا شرعية قد لا تمت لشرع أصل ذاك الدين بصلة، لكنها تفرض على جميع أفرادها العمل وفق تلك الأيديولوجيا وتلك التشريعات المستحدثة والموضوعة.
***

عندما تكون: (أنت)، وسط جماعة لا تريد منك إلا أن تكون (هي)، لابد وأن تتكالب عليك اللعنات ويشرع المسئولون في تلك الجماعة بسلِّ جميع التدابير المشروعة وغير المشروعة من أجل سنِّ قوانين وفتاوى عرفية لتهميشك واستلاب حقوقك بل وأحيانا لوصفك بالخارج منها عليها..
***

إن كنت تنتمي لجماعة ما لأن ذويك انتموا إليها من قبلك، فذلك يعني أن تقبل جل ممارساتها بالضرورة وأن تظهر استحسانك ورضاك عن كل ما ترتبه وتحوكه وتؤديه، فإن أنت أظهرت إعجابك بممارسة أدتها جماعة أخرى – ليست بالضرورة منافسة – تكون قد خسرت حياة هانئة وسط جماعتك!
فما الذي يمنع من تشريع سنن تقضي بأن يكون الفرد (هو) في كل حالاته وقتما شاء، وأنى أراد؟
بل لِمَ نحتاج إلى تلك السنن ما دمنا بشرا نفكر ونختلف دون أن نسعى لمس دين أو قانون إلهي بسوء؟
***

هل يعني الانتماء تماهي المنتمي مع/ في الآخر المنتمى إليه؟
إن كان الجواب نعم، فلِمَ أسميناه انتماء ولم نكتفِ بتسميته تماهٍ؟
أمن أجل زيادة رصيد العربية كلمة؟ أم لنفتح باب التأويل ونضيف إلى تخريجات رؤوس الجماعات تخريجا جديدا من أجل عقوبة ما؟
وإن كان الجواب لا، الانتماء ليس بالضرورة تماهٍ مع وفي الآخر، فلم تُفْرَض كل هذه العقوبات وهذه السنن من أجل الوصول إلى هذا التماهي؟

عمتي والودعة

إمرأة عراقية ترتدي ثوبا أسودا، وعصابة رأس سوداء، الظاهر من جسدها مليء بالوشم فجبهتها وذقنها وحواجبها وكفيها وقدميها تزينهم رسوم خضراء عرفتُ فيما بعد أنها تدعى وشما.اعتدنا أن نراها معنا فردا من أفراد الأسرة كل شهرين لتجلس معنا شهرين آخرين إذ كانت تتنقل بين بيتنا وبيت خالي، فهي عمة أمي وخالي بالطبع.في صندوقها الحديدي الرمادي الذي كان مقفلا في أغلب الأوقات كانت أدواتها التي ما كنا نجرؤ على لمسها لا في غيابها ولا في حضورها، أذكر منها صرة بها العديد من الأصداف والمحار بمختلف المقاسات والأشكال، أسمتها: الودعة....
في كثير من الأيام كنت أرى نساءً يخرجن من منزلنا وهنّ في غاية الفرح حيث كنّ يعرفن شيئا من مستقبلهنّ من عمتي..!!جلستُ عندما كنت في الثانية عشر معهن ذات مرة، كانت السائلة إمرأة لم يكتب الله لها أن تنجب، وبصوتها المرتفع قالت العمة:إرمي بياضك..!فإذا بتلك المرأة تلقي ب 200 فلس وسط تلك الأصداف والقواقع، فبدأت العمة بالعمل..كانت ترفع صدفة وتضع الأخرى وعلى وجهها علامات عديدة فمرة تقطب جبينها وأخرى تبتسم ومرة تبدو عليها علامات الدهشة وهي تحسب وتحسب وتحرك يديها بحركات وكأنها تريد أن تشرح لأحدهم ما تقول، لم أسمع شيئا مما كانت تقول فكان الأهم لدي أن أرقب تحركاتها التي بدت غريبة علي بعض الشيء، لكنني وجدت المرأة خرجت وهي متهللة الأسارير، فرحة بما سمعت.
دنوت منها وسألتها أن تقرأ طالعي فسألتني عن بياضي، وعندما وجدت أختي علامات عدم الفهم علي ألقت بمائة فلس وسط الأصداف، فعلمت أن البياض يعني هنا مبلغا من المال.. سألتها قبل أن تبدأ عن سبب هذا "البياض" ، فأجابتني بشيء من الجدية: إنه للمعرفة، من دونه لا يأتيني العلم فأنا استخدمه أثناء " فك الفال"، وبدأت بنثر الأصداف مع " بياضي" من تلك السلة التي وضعتهم بها مسبقا بعد أن قامت بهزها، رأيت الأشكال – ولا زلت أتذكرها وكأنها كانت أمسا- صدفتين وحيدتين بعيدتين والبقية كانت متجمعة في شكل معين أما بياضي فقد كان تحت إحدى القوقع وقد بان منه نصفه.. وبدأت الحديث:أمامك مستقبل واعد، فهذه هي العمارة التي ستسكنين بها مع زوجك وأبنائك في المستقبل ثم ستنتقلين إلى ذلك المنزل ( وقد كانت تلك هي أكبر الأصداف)، وبعد نقطتين( مشيرة إلى الصدفتين البعيدتين) سيأتيك خبر مهم وسعيد تتغير معه حياتك نحو الأفضل...وعندما سألتها عن النقطتين قالت لي بأنهما قد يكونا يومين أو اسبوعين أو شهرين أو عامين...هذا ما أتذكره من ذلك الحديث الذي كان طويال في الواقع ولكن ما أذكره هو دهشتي بعد يومين إذ جاءني خبر موت إحدى المدرسات اللاتي درسنني في الابتدائية، ولم يأتِ ذلك الخبر السعيد، فتزعزعت بعض من تلك المصداقية لهذه الودعة في نظري!!مع العلم بأن شيئا مما قالته لم يحدث حتى اليوم رغم أنني كنت أصدق كل ما تقول، وأتضايق حين كانت أخواتي وأمي يضحكن تارة ويشحن بوجههن تارة أخرى فتشتاط عمتي غيضا منهن.
ما أتذكره تماما هو أننا كنا نستمتع بهذا الطقس ونجد فيه متنفسا ينسينا زحمة الدراسة ومشاغلها، وكنا نتحلق حولها في كل مرة طالبين منها أن تقرأ لنا الطالع مرة بالودعة ومرة بالكبريت..!!نعم الكبريت حيث كانت تقوم بفتح علبة الكبريت وتأخذ مجموعة من الأعواد بشكل عشوائي وترسم منها مربعات فإن تبقى عددا زوجيا تكون "الخيرة" جيدة ونقوم بما عزمنا عليه، وإن تبقى عدد فردي فهي سيئة ويجب ألا نقوم بما ننوي – ولكن من يسمع- !!
لقد ارتبطت في مخيلتي صورة العرافة بصورة عمتي بسواد ثيابها وصوتها المرتفع وطيبتها الرائعة.
كانت في كل مرة تزورنا نجلس معا في حلقات لنستمع إلى أساطيرها وقصصها الجميلة التي أشعلت في مخيلاتنا العديد من الصور والخرافات، إضافة لأحاديها حول الكرامات التي كانت تحدث لجدي الأكبر في العراق إذ كان شيخ دين من كبار الشيوخ وأغزرهم علما في قبيلتهم – على حد قولها – ولا زلت أتذكر قصة الزيت الذي تحول مرا عندما سرقه بعض الفقراء من وعائهم ليلا بعد أن تذوقوه وأعجبهم في بيت جدي، لكنهم عندما أرادوا أكله مع الرز كان شديد المرورة فأعادوا ما تبقى لكنه لم يضعه في الوعاء بل طلب الرز ووضعه عليه ليأكلوه ويجدوه لذيذا كما كان..!!
هذه الحكاية وغيرها من الحكايات كانت أساس جلساتنا مع هذه العمة التي كنت أعتبرها كنزا في لهجتها العراقية الي أحب، وقدرتها على نظم الشعر العامي ارتجالاً حتى فكرت في تسجيلها وجمع ما تقول، ولكن القدر حال دون ذلك إذ كانت كبيرة في السن توفيت ونحن خارج البلاد في صيف قاسٍ.