الاثنين، 31 أكتوبر 2011

نحتاج إلى ترجمة أرواحنا


حاجتنا إلى ترجمة الوضوح الكاذب. لا نحتاج إلى ترجمة الغموض. الغموض في وقتنا، عالمنا أكثر وضوحاً من مرايانا.
===
من يترجم من في هذا الفلتان الأخلاقي والنصي؟ نحتاج إلى أكثر من ذلك.
===
ترجمة الأرواح في التلاقي. يحدث خطأ في الترجمة حين لا تمت إلى روح بصلة. ساعتها لا تحتاج إلى ترجمة.
===
يحاولون ترجمة أسرهم. يعمدون إلى تخليص أرواحهم من الوهم.
===
«الترجمة الخائنة» مصطلح سخيف. إما أن تنطق بلسان المخلوقات كما يجب وإما أن تخرس.
===
لا صعوبة في الترجمة. الصعوبة في التلامس مع روح ما يراد ترجمته.
===
كل فهم خلاق ونبيل في العالم، ترجمة أمينة لحركته وشعوره.
===
حتى الجمادات تملك قدرة عجيبة على ترجمة روحها غير المرئية لنا بروح الهيئة التي هي عليها.
===
لا تترجم انفعال من تحب. لحظتها ستغتاله باسم الخلاص.
===
البعض يصر على استحالة ترجمة اللامرئي. أنت لا تترجم صنماً. أنت تترجم معنى وروحاً.
===
العربية لغة القرآن. القرآن استطاع أن يترجم قيمه الخلاقة على امتداد العالم؛ لكن العربية نفسها لم تستطع أن تترجم ما علق بتلك القيم من تشويه وسوء فهم؛ ربما لأنها خارج حركة العالم كلغة في إضافتها وتأثيرها.
===


كل يترجم قدرته على الحضور وإن أمعن في الغياب.
===
الضواحي في المدن ترجمة أخرى للنقاهة وتجنب الضجيج.
===
نرى الأقدار بأنها ترجمة لسوء حظنا. نحن في كثير من الأحيان نسيء لحضورنا والحظ.
===
يمكننا أن نترجم المؤقت إلى أبدية. يمكننا أن نسيء ترجمة الأبدية إلى لحظة.
===
الشظايا هي الأخرى ترجمة لانفلاتنا وتبرمنا ومأوانا في اللامكان... اللاجهات.
===
السؤال نفسه ترجمة لقلق لا يراد له أن يطفو على طمأنينة زائفة.
===
الأغاني التي نحب وتخرجنا من وحشتنا، ترجمة لحنين لم نجرؤ على البوح به.
===
هوياتنا المتعددة ترجمة لمأزق استقرار لم نبلغه.
===
المعنى ترجمة تمنحنا عينا إضافية لفهم ما حولنا.
===
ترجع بنا الخيبات إلى حيث الانكفاء. تمردنا على تلك الخيبات ترجمة لقدرتنا على المفاجأة.
===
نصقل أحلامنا بترجمة قدرتنا على إقصاء الوهم.
===
لا نحتاج إلى أيقونات تحفظنا من الانتهاب. نحتاج إلى ترجمة أرواحنا كما يجب.
===
يصقلنا الوقت. يترجمنا المكان.
===
نترجم الماضي النبيل بمستقبل أكثر نبلاً.
===
ما الجغرافية؟ ترجمة الرماد الكئيب إلى حدائق تمتد إلى ما بعد الأفق.
===
كل موسيقى لا تهدر قيمة الروح ترجمة لقدرتها على التحليق كما يليق بها.
===
كل هجر ظالم ترجمة للخسة.
===
للقمح هو الآخر ترجمته في قدرته على منحنا التنفس في هيئة امتداده والأفق الذي يحرجه.
===
يترجمنا الوقت هو الآخر بحسب مزاجه حين نكون خارج حسه.

جغرافيا العتمة



الذوات تحن إلى الهدوء. الجمادات أيضاً لا تغفل عن ذلك الحنين. يُجرح البياض في تسيّد العتمة. يُجرح حين يراد له أن يتوارى. أن تحتل العتمة والقبح كل زوايا المشهد. عالمنا مشاهد ذاهبة في النقيض. نقيض الحقوق ونقيض الغلبة ونقيض الاستواء ونقيض الطرق المسورة والمطرزة بالحواجز. حواجز من كل لون تتقصى سحنتك ولكنتك ومذهبك وحتى ذوقك الهامشي. لا يستعصي الوصول إلى المراعي في الحياة؛ لكننا في نهاية المطاف - من المفترض - خارج تصنيف تلك الكائنات. لا تبدأ حياتنا بعلف وتنتهي بنهايته. ندرك الفارق بين الشرط والخيار، وندرك الفارق بين أن تكون أنت أو نسخة يراد لك أن تكونها وفق اشتراطات مذلة حتى للحجر؛ عدا الإنسان.

لهذه القيمة قصة أخرى معنا، مع ذواتنا، مع خياراتنا التي يراد لها أن تكون موجهة ومسيرة؛ بعدها لا ذوات ولا خيارات مع هكذا وصفة مذلة لقيمة الأشياء قبل البشر.

حين يستسلم أي منا إلى عتمة تجتاحه؛ يصبح موضوع سرد واغتياب واستباحة لذاته. لا عتمة يمكنها أن تقدمك كما أنت. ستستعرضك في نهارها الخصوصي؛ فيما أنت غارق في النقيض. كل عتمة درس ومخطط لاستباحة الضوء فيك. استباحتك من أول الوقت إلى مصادرته. لن يستوعب أحد هذا الدرس ما لم يمر بمختبر حصار وانتهاب يرجع ذاته إلى الحجر المهمل في درب لا يعبره أحد!

جغرافيا من العتمة التي لا تكاد تميز فيها بين أصابعك وأظلاف. تنهش اليسير من لحمك. جغرافيا عتمة تنسدل أمام سطوتها كل أضواء وقناديل في المهرب من المكان والحس. لا قدرة لك على إضاءة حتى في جغرافيا وهمك. ثم إنه لا سلطة لك حتى على الوهم قبالة شهوة جغرافيا تمعن في الملح والأظلاف وسوقك إلى النهايات الجاهزة لديها.

لا ذاكرة لك في جغرافيا كتلك. العتمة ذاكرة كل شيء. ذاكرة المكان والوقت. لا جدوى للذاكرة في هكذا هول. الذاكرة أن ترى ولو بأذنيك، ولو بحاسة شمك، ولو باليسير من حواس جسدك. كل ذلك رهن الاستباحة ورهن اليأس ورهن المبْرد الذي يبدأ بلحمك قبل عظمك، ومن قبلهما ذاكرتك.

تختزل العتمة البشر الذين تصطفي في عجزهم عن الرؤية كما يجب وانتهاب أرواحهم، والصراخ في عتمتهم الطارئة قبل المقيمة كما يجب أيضاً. لا أحد يقوى على مصادرة روح وخيار وحيز أحد ما لم يكن هو في غفلة من روحه وخياره وحيزه؛ لكن ذلك لا يشرع لكل هذه الاستباحة لدرجة العهر المحض أمام خيارات المخلوقات في النظر إليها كقطيع لا مالك له سوى العتمة وأربابها، وهي الوارثة له.

هذا اليباس الذي تتعامل معه الجغرافيات ومن يسوسونها عبر شهوة العتمة تلك، لا يلغي بأي حال من الأحوال مواطن التوهج ومواطن الأيائل في رشاقتها أمام فتور وشلل المحيط ومواطن الذهب في زمنة وأبدية الفاقة والبؤس. وإن لم يتحقق لها ذلك، لن تمنحها العتمة الرابضة على روحها أتفه صفة المعادن؛ فيما هي ممعنة في استفزاز وإرهاق أرواحها.

في العتمة، ثمة رائحة شواء لحم بشري. ثمة كرنفالات لاستعراض أكثر من سبي في سكرة الاختطاف ذات غفلة وذات سوء تقدير وقراءة. في العتمة بنادق تحتل حيز المثمر من أشجار البندق والغاف وحتى الأشجار التي تجاوزت كهولتها وفي الطريق إلى التلويح بيباسها؛ لكنها تظلل الأرواح قبل الرؤوس.

في جغرافيا العتمة تلك، لا تاريخ يمكن تذكره. لا حواس يمكن اختبارها أو معاينتها. لا ذوق يمكن أن يستعرض إلمعاته. لا نص يمكن له أن يقرأ أو يبهر في مدى لا يرى. لا قدرة لأحد على اكتشاف الفارق بين الحديد والحليب. بين النار ومكعبات البوظة في ظل هكذا عقيدة مهووسة بتكريس العتمة إلهاً. كل متجسد هو بمثابة أسياخ، وأصوات الكلاب والصراخ في جلسات المقامع سيمفونية تلائم هيمنتها وذهابها في القبيح من الفعل ونقيضه.

في جغرافيا العتمة لا عين يمكن أن تكون وقحة تصرخ في هذا السديم الأعمى: أرى ما لا يرى

نرجس الاعتذار في خريفه



إحصاء القتلى يرعب. القتلة نادراً ما يعمدون إلى ذلك؛ لأنه يذكرهم بدمويتهم وينشط شهوتهم وهم في غنى عن ذلك حين تترى البراكين وألسنة الغضب وهيجانه. لا ندم في الأمر. الذي يوغل في الدم لا يعرف إلى الندم سبيلاً. وحدهم ضحايا القتل الذين يعمدون إلى الإحصاء؛ لا ليرتعبوا؛ بل ليتذكروا أنهم مروا من هنا. من لحظة فارقة بين أن يكونوا أو أن يصبحوا جزءاً من العدم ودليلاً عليه.

للقتلة قدرة فائقة على النسيان، وذلك ما يساعدهم ويحفزهم على مزيد من عار/ موهبة القتل. وللضحايا قدرة فائقة أيضاً في سهرهم وحرصهم على عدم النسيان. نسيانهم يعني صك اعتراف ببراءة القتلة، ومباركة لاستئناف المزيد من القتل.

الإحصاء في تنظيم الدول يتتبع الأنفس - بالدرجة الأولى - التي في عداد نبض الحياة؛ لكن إحصاء الذين وظيفتهم إرجاع الحياة إلى سيرتها الأولى، سيرة همودها وجمودها، لا يهمهم من قريب أو بعيد مثل ذلك الإحصاء. وظيفتهم أن يتركوا الضحايا والقتلى في طوابير بطول العذابات التي لا تنتهي، ولن تنتهي.

عاطفيون حد النسيان هم. عاطفيون إزاء نرجس الاعتذار في خريفه وخناجره. تأخذهم الكلمات حين ترجرج عاطفتهم وتهزها من جذورها. يصبح معنى الذين أسرفوا في القتل قابلاً لإعادة النظر في توصيفه. قابلاً للتعامل معه كالعادي من الصفات والعادي من الأحلام والأوهام في الوقت نفسه، والعادي من سبق وإصرار وترصد الفعل.

يصحون في اليوم الآتي، يعيدون إحصاء قتلاهم والذين تم تسليمهم للاستباحات والكسر «المقدس» لأرواحهم ومشاعرهم وقيمتهم؛ وكأن القتلة بذلك يدفعون زكاة إسرافهم في الدم. هل لسفك الدم بعد سكرة أو قيلولة زكاة؛ وخصوصاً في إلإسراف فيه ولو في محاولة للتخلص من صداع عابر؟! يسأل أحدهم وقد تأخر عن دفع زكاة الفطرة ليومين لأنه كان مشغولاً بمواراة قتلى لم يسعفه الوقت كي يأخذ قيلولة بالقرب من شاهد قبر؛ لأن القتلة في «المقدس» من الانتهاك مشغولون بتقديم مزيد من تقارير حصادهم وإلا أصبحوا خارج المعنى والتاريخ، ويتوقف مستقبلهم على مزيد من زلزلة الرعب وخريطته ومن بداخلها.

عاطفيون حد الرماد. لا عين للرماد. الرماد لا يبصر ما عداه من ألوان. عاطفة كتلك تدفع بك إلى مزيد من تفتح شهوة الحرائق. ثمة التباس في إحصاء القتلة. التباس يمس ما يريدون إحصاءه بطمأنينة زائفة. إحصاء ضحايا وقتلى اصطناعيين. لا تحتاج إلى أن تمتحن رعبك في هكذا إحصاء؛ لأنك ستنسب قتلاً لم يحدث. لم ترتكبه أساساً؛ لكن المفارقة أنه في ظل إحصاء كذاك يفيض بالغربان وإيقاع المكر، يطل الضحايا في ذروة مشهد رديء في شخوصه وعلاماته. يربكون كل ذلك. هنا فقط يتولد رعب ليس بالضرورة أن يحسم الاصطناع في الموقف، وإرجاعه إلى وضوحه وإشهاره وبلاغته الركيكة والزائفة. يكفي أن الذين يحصون ضحاياهم يفعلون ذلك من دون ارتجاف روح وإن ارتجفت أنامل؛ فيما الذين يحصون ضحاياهم الاصطناعيين ترتجف الأرض من تحت أرجلهم ومن فوقهم لفرط الإفك قبل أن يرتجف عصب في خشبهم المسندة. وهل ترجف الخشب من دون أن تكون مسندة أساسا؟

إحصاء القتلى لا يرعب الضحايا، إنه الكابوس والشبح الذي يطلع حتى من مسامات الهواء، وكل إيقاع يلجأ إليه القتلة لينسوا بتبادل أنخابهم قبل ساعات من ارتكاب «جماليات» وجودهم متوهمين إياها؛ سيلطخون ألوانها ريثما ينهون صخب رؤوسهم ويأوون إلى غدر الإخوة والتشبث بالإفك الأزلي افتراء على براءة الذئب!
الحياة تحتاج الطيبين والسذج في الوقت نفسه، ربما تعمر بهم؛ ولكنها من دون ريب لن تعمر بقتلة لا يهمهم في أغلب الأحيان إحصاء الكوارث والقتل الذي يخلفونه وراءهم كلما جاسوا خلال الديار، وجاسوا خلال أوهامهم وشهواتهم وحرصهم على غروب ما عداهم، وتكريس حضورهم في «رابعة» الزمان والمكان. ربما يكون الضحايا في عاطفيتهم حد الرماد؛ لكنهم من دون أدنى شك يملكون ذاكرة تظل مرجعاً لكل ألوان وسعة الرؤية والمدى الذي لن يتوافر لدى من هم في الصميم من رمادهم.

درويش: من حسن حظيَ أني نجوت مراراً



«والسراب كتاب المسافر في الليل...
لولاه، لولا السراب،


لما واصل السير بحثاً عن الماء»


محمود درويش


ليس وحده السراب الذي يدفع بدويّاً إلى تقصي الوهم. ليست الغيمة التي تخذله. بعض ذلك في السماء، وبعضه في الأرض. ولا نخشى على ما ظنَّه سراباً في السماء. لذلك حكمته وشروطه. ما نخشاه هو السراب والوهن اللذان تكاد تكتظ بهما الأرض.


ليس سراب محمود درويش في «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي». والقصيدة لا تنتهي لدى شاعر أمسك بعصَب اللحظة، ولوَّح بها في فراغات بالجملة، فقط ليقول رأيه في أن القصيدة وجع الحياة بامتياز. وجعها من حيث قدرتها على ملاحظة الفارق بين اللهو والملهاة، وبين وجع البحث عن مأوى أصيل ووحيد وضروري، وبين وجع النقرص!


ليس سرابه في سذاجة البلاد والمكان؛ بل في سذاجة من يقطن السراب ذاته.


لا مواعيد يمكن أن تضرب، ولا سمَر يمكن أن يُتفق عليه، حين يذهب المنافق في صَلاته بحثاً عن مزيد من صِلاته القابلة للفتك. حين يذهب المسافر اللامنتمي بحثاً عن جهات، ربما دشنت أول عذاباته من دون أن يدري. حين يذهب المناضل في رخاوة الاتفاقات الجانبية بيعاً للدم وكل القيامات التي كان شاهداً عليها. حين يذهب الكاتب تحسُّساً لرصيده في المصارف، ولو صرفت الأمة إلى حتفها الخيالي. فثمة أكثر من حتف خيالي اليومي يرعاه هذا اللهو الممتد من الصبر حتى الانحناء على قبر هو ثمرة إصلاحات مقترحة ترى في مزيد من القبور تخفيف أعباء على الذين لا يجدون موطئ قدم في رصيف نادر غير محاصر.


ظل محمود درويش طوال حفره والذهاب إلى الحدود اللامتناهية من الدهشة، التي كشفت غفلة وسطحية كثيرين، وخصوصاً في نبوءته بسيادة الخراب، منحازاً إلى تربية القمح والأفق، ومنحازاً إلى تربية رعاة يضيفون إلى الفضاء من حولهم براءة بعفويتهم وقدرتهم على التماس معه.


ظل كارهاً للغروب؛ وإن تكرَّر في معجمه في أكثر من نص ومجموعة شعرية، متواطئاً مع أول النهار، وأول الحركة، مع قناعة عمَّال يذهبون إلى عنائهم بسبحانية الأمل؛ فيما أرباب العمل في خلاعة رفاهيتهم يهندسون شقاءهم وشقاء أحفادهم. ظل منحازاً للأمل ووردته، لا فرق لديه نبتت في رأس صخرة أو طريق موحل أو على شاهد قبر.في السراب الممعن في حضوره، يتمثل درويش سياسات ومواقف وشواهد الانحياز للرقص والسمر على طوفان دم لم يحن وقت استراحته. حتى الربيع العربي لم يكن بمنأى عن نبوءته في نص «على محطة قطار سقط عن الخريطة»:


«كنا طيبين وسذَّجاً...



قلنا: البلاد بلادنا...


قلب الخريطة لن يصاب بأي داء خارجي»...


ما يكشف عن سخرية عميقة تعني المقابل والنقيض، في عروق بات الدم فيها رهن المسافة الفاصلة بين صرخة الاحتجاج والقبر. رهن قدرتها على تدشين بيان خروجها على هذا الغروب الذي استمرأ حضوره الثقيل.


وهي النبوءة ذاتها في: «هناك موتى يوقدون النار حول قبورهم، وهناك أحياء يعدُّون العشاء لضيفهم»، في لعب على المفارقات وعلى النقائض، وعلى حياة ذاهبة إلى موتها باطمئنان راسخ، وعلى موت ذاهب إلى الاطمئنان ذاته ببلوغ أرسخ. أكثر معنى وقيمة وعمقاً. ذهاب يتحرَّى الفارق بين العادات والمعنى، وللعادات قدرتها على عدم النسيان؛ فيما المعنى يذهب في تذكُّره، ويصنع ذاكرته الاحتياط؛ حين يتحرَّش به حرَس النصوص وحرَس النوايا!
ظل درويش وفياً للمصادفات؛ مثلما كان وفياً للقرائن؛ لكنه ظل في بعض الأحيان مرتبكاً أمام القرائن التي تُمرَّر في الحياة للإيقاع بالذين لم يدعوا بشرايينهم سلطة مخاطبتهم في المسير الطويل إلى ليلهم كي يضعوا حداً له؛ أو للذين كانوا إخوة الحَمَام في طريقه إلى الأعشاش المفتوحة على الهواء والشرفات.
كان شاعر النسيان في حضور ألق الحياة، وكان شاعر الذاكرة حين تزدحم بشهوة الفناء، وكان صديقاً للسراب في حيِّزه الخاص، ولا يتعدَّاه فرحاً حين يصيب حيِّز الآخرين.
هل كان يعني حقاً «من سوء حظيَ أني نجوت مراراً من الموت حباً...
ومن حسن حظيَ أني مازلت هشّا
لأدخل في التجربة..

كونوا مدى ولا تكونوا زنازين

كونوا نسوراً قيمتها الأعلى، ولا تكونوا ضباعاً تتكالب على الجيف في الحضيض من المكان والمفزع من الوقت.

كونوا جسوراً تصل أرحام البشر واليابسة، ولا تكونوا جزراً معزولة محاطة بالأسلاك الشائكة، لا يصل إليها إلا المتواطئ في النهب والطاعن في غياب الحس.

كونوا أحلاماً، ولا تكونوا كوابيس.

كونوا وسائد، ولا تكونوا عراء.

كونوا مدىً في أرض الله، ولا تكونوا زنازين.

كونوا صفحاً، ولا تكونوا إساءات.

كونوا سنابل، ولا تكونوا خناجر.

كونوا نهارات، ولا تكونوا ليالي استجواب.

كونوا أنهاراً، ولا تكونوا تسوُّلاً.

كونوا المعنى، ولا تهزنَّكم الإحصاءات الرسمية.

كونوا فعلاً، ولا تكونوا هتافات وتوصيات فارغة.

كونوا الحنين في الضلوع، ولا تكونوا ضالعين في النكران.

كونوا الصراحة في النشيج، ولا تكونوا الحداء البليد في صحراء لا نهاية لها.

كونوا على استعداد للقبض على النجوم، حين يراهن أحدهم على جعلكم مماسح للأحذية.

كونوا الرتْق، ولا تكونوا الفتْق.

كونوا الفعل، ولا تنتظروا النبوءات.

كونوا الإقامة في مواجه أعبائكم؛ وإن أغراكم الرحيل.

كونوا الفضح لكل عدوٍّ للحياة، ولا تركنوا إلى الستر والذين ظلموا.

كونوا وسائط للأرواح والقيم، قبل أن تشغلكم وسائط النقل والمعرفة.

كونوا الحرب على سلام كاذب يصادر قيمتكم.

كونوا المستقبل، حين ينهزم الآخرون ارتداداً إلى ماضٍ لا نبض فيه.

كونوا الإضاءات الغامرة في سلطات التعتيم.
كونوا التسكّع في خزي الإقامات.
كونوا الحبر بضوء فاضح في أوقات البيانات مدفوعة الأجر.

كونوا الملاسنات الحقّة في الهذر والمديح، و «كل شيء على ما يرام»!

كونوا الكشف، وانسفوا كل ليل بعده.

كونوا الدبيب الصريح على الأرض، ولا تسيروا على رؤوس أقدامكم، في ظل نهب طال هواء العالم!

كونوا الإقلاع، ولا يستغلنّكم أحد كي تكونوا مواضع له.

كونوا العمق ولا تغرنَّكم بهارج السطح.

كونوا الحسم ولا تضعوا أنفسكم في سذاجة اختبار ضربات الترجيح.

كونوا «المجهول» الذي يغري عدوكم لمواراة «معلومه».

كونوا الفارق والمختلف وذروا المتشابه.

كونوا المشاهد على الأرض وروحها، بعيداً عن أي قطار سريع؛ فذلك يغتالها ويصادر تأملكم فيها.

كونوا الفضاءات لا الأطواق، والعفوية لا القواميس، والصمت لا الهذيان، والاحتجاج لا سلاطة اللسان، والكتابة لا المكتبات الشبيهة برصيف في مقبرة.

كونوا كسر القواعد لا تثبيتها والخضوع لها، وخصوصاً قواعد إلغائكم، بالذهاب إلى الفوضى والمزاج.

كونوا أبناء العالم ولا تكونوا أبناء الجارية التي كتب عليها أن تكنس وتمسح الفضلات وتتعهد سيّدها وأولاده، وفي النهاية لا يميز بينها وبين فردة حذاء.

لا نريد دماً صديقاً لبيئة القهر!

سأبقي عيني مفتوحة على هذا الوطن كفلَّاح داهمته الغصص وهو يصحو على حقل تم حصده من لصوص الليل وخفافيش البشر؛ بعد سنوات من العَرَق والأمل والأحلام.

سأصمم الأمل الذي يليق بروحي كي أثبت أن الحياة لا يمكنها أن تعلن تقاعدها كلما كثر الندابون والنواحون أو حتى هواة الاستجمام.

سأترك نوافذي مشرعة على الشمس والهواء ومهابة المحاولة؛ كلما انهمر الغاز مع كل احتجاج يتطلع إلى حصة من الشمس والهواء بعيداً عن آلة الإسكات.

لن تشغلني بعد اليوم مغامرات «الشحرورة» يوم أن كانت لحماً وأصبحت عظماً، سأكون مشغولة بعافية وحيوية هذه الأوطان التي صودرت كل المعادن من دمها؛ ولم يتبقَّ إلا أن تحال دماؤها إلى وقود صديق لبيئة القهر، في حدوده النهائية.

سأكون منشغلة بالغد، وأنا أترصد كل فرح وانفعالات وصمت وتجاوز وقمع الحاضر. لن أجعل من الهراوة والعصا أداة ضبط لي من قبل أية جهة. أداة ضبطي أن أنام وأصحو على ميزان مفعل في الحقوق والعدالة التي يمتد أثرها إلى الإنسان ولا تتجاوز بيئة ذلك الإنسان.

سأختبر روح هذا الوطن بالشهود في مواضع بلوغ الروح الحلقوم. سأختبره بشيوع أعياده؛ لا مجازره؛ وشيوع ولاداته لا جنائزه؛ وشيوع تقدمه لا تقهقره؛ وشيوع جنونه المنتج؛ لا شيوع عقل يراد توجيهه في مختبرات الإعلام والمنابر وغرف التحقيق السرية.

لن أقلع عن عادة فتح عيني على المضيء في هذه الأوطان، بالقدر الذي أفتح فيه عيني على المعتم فيها.

لن أنزوي مرتجفة في زاوية مع كل مكالمة تهديد وشتم يكشف عن بيئة صاحبه، حين أترك لسبابتي حرية وحق فقء عين كل تطاول على الحقوق ومناسيب مياهها الغائرة.

لا مستقبل لي ولملايين في هذه الأوطان في ظل حرية مشروطة ومجتزأة. لا مستقبل لي ولملايين في هذه «الكانتونات»؛ في ظل ثقافة رائجة في الكراهية والتحريض والتخوين والإذلال والمزاج الذي يمرر حقوقاً بيد ويغتال أرواحاً بيد أخرى.

لا مستقبل لي في ظل انقطاع الأمل في أن الإنسان مهما تعايش - مجبراً - مع صنوف الإذلال اليومي التي يعيش تفاصيلها؛ يظل في نهاية الأمر مشدوداً إلى الطبيعة الحقة التي ظلت متلازمة مع حسن خلقه وتصويره:كرامته وقيمته الفعلية وجوهر معناه في هذا الوجود.

سأظل وفية لأبي قيس (حسين الأمير) ولم يفتنا احتفال بعيدي زواجنا وميلادنا، حين كان يكرر بين مناسبة وأخرى: «أعيادنا أن يعيش الآخرون كما يجب!».

تلك قيمة لا تعلمك إياها ورش دول وأنظمة، ولا تريد أن تكرسها في تفاصيل حياتك. قيمة أن تربط حياتك ووجودك وقيمتك بعدم امتهان حياة ووجود وقيمة غيرك من الخلق.

ثم إنك بعيداً عن ذلك الشعور والإحساس، وكذلك تمثله؛ لن تكون سوى صدى مثل مليارات الأصداء التي لا تترك أثراً بعد انتهائها. أثرك أن تخلق الفعل وتكرسه بحيوية وحر الموقف. وأثرك أن تكون قادراً على إشاعة الأجنحة في من أقعدهم اليأس وهول التجاوز.

لن يضجرني غياب النعم. نعمي أن أحيا مع سواي من الخلق حرة. سيضجرني غياب معناي ومعنى سواي. لن يضجرني نباح الغوغاء؛ سيضجرني غياب صوت العقل في هذا الصرع المستشري كوباء. لن يضجرني تقلب الطقس والقيامات التي تهطل علينا كالحتف؛ سيضجرني ألا أصحو وقد عاهدتُّ الله قبل أن أعاهد نفسي بأن أحيا حرة كما أرادني الله، لا كما يريد لي المزاج.

أن تكتب تعميقاً لمعنى سواك



بعض البشر يكتب ليحيا، وبعض البشر يكتب ليحيا على حساب الآخرين، وبعض ثالث يكتب ليحيا ويحيا معه الآخرون، وبعض رابع يكتب ولا يهمه أن يحيا مادام الذي يكتبه سيسهم في حيوات كثيرين، وبعض خامس يكتب ولن تحس أنه كتب أو سطَّر أو مرَّ أساساً في ذاكرتك، وعبر كتابته تلك لن يقدر له أن يحيا بها، ولأنه فاقد لتلك القيمة، لن يستطيع أن يهب الآخرين ما يفتقده.
والذين يذهبون إلى الكتابة وهم يفتقرون أدنى حس بما حولهم، وخصوصاً الكتابة في الشأن العام، لا تتجاوز كتابتهم استعراضاً للخيبة والفشل الذي يكتنزون به؛ علَّ الكتابة تحقق لهم ما افتقدوه، وما لم ينشأ داخلهم أساساًَ، وليسوا أهلاً له. هم يمارسون عبر تلك الكتابة خيباتهم؛ وإن رفعوا شعار الحقوق، وأطنبوا في الحديث عن المثل والقيم والحريات.
كل كتابة باردة جامدة؛ حتى لو استغلت آلام وأوجاع وانتكاسات وخيبات الناس، لا تختلف كثيراً عن حملات تبرُّع بالدم لا يذهب إلى مستحقيه؛ بل يذهب إلى القتلة في الجهة الأخرى من المكان والزمان.
كل كتابة لا تسهم في حرية مكانها وزمانها، لا تختلف عن أي «غوانتنامو» أو «الباستيل» أو «أبوغريب» أو «أبوزعبل»، في تكرار للتفنن في مراكز حجز كرامة الإنسان وقيمته قبل حجزه.
لم تنشأ الكتابة لتزيد ظلام وعمى الناس. نشأت منذ فجر الوعي الأول لتنقل الإنسان من حال ظلمته وغفلته إلى حال تنويره ووعيه وإدراكه.
ولم تنشأ الكتابة ليكرس أصحابها سلطاتهم وجاههم وحظوتهم ومنافعهم وحضورهم ومكاسبهم على حساب حرمان شرائح كبرى من مجتمعاتها من أدنى حقوقها، وما يدل على إنسانيتها وحضورها.
لا مشكلة لدينا ولدى غيرنا من البشر الذين يكتبون ليحيوا، بالاعتبارات والظروف التي هم أعلم بتفاصيلها؛ وقد يمرر إلينا شيء منها. ذلك شأنهم؛ ما داموا يكتبون ليحيوا من دون أن يصادر حرصهم على تلك الحياة، خفقة قلب من أعمار الآخرين.
ولا معنى لمن يكتب من دون أن نحس أنه كتب سطراً أو مرَّ أساساً في ذاكرتنا؛ ذلك صنف من ضمن حركة التوازن في وعي الحياة لانتخاب ما ينفع الناس، وترك ما لا يضيف إلى قيمتهم.
مشكلتنا مع الذي يكتب ليحيا على حساب الآخرين؛ مستثمراً آلامهم وعذاباتهم لتحقيق ما عجز عن تحقيقه، والبشر من حوله يمارسون حياتهم الطبيعية؛ باستتباب الحقوق والوعي والانتباه في ذروته للواجبات.
وتظل تحترم وتقدّر ذلك الذي يكتب ليحيا ويحيا معه الآخرون - في توازن يراه، وكثير منا يراه - يذهب في اتجاه المعايشة اليومية لتفاصيل الناس وقضاياهم، واستلهامها توظيفاً وصوغاً وتقديماً، في توازن لا يمس العلاقة مع الناس فحسب؛ بل يطال أيضاً التنبيه على مواطن ومواقع الخلل؛ ما يجنب «الرعاة» مشكلات وكوارث وعديداً من القلاقل.
قليلون هم في هذا الزمن، في الأمكنة التي نحياها ونتحرك فيها باشتراطات معقدة، الذين يكتبون ولا يهمهم أن يحيوا - بالمعنى المادي - مادام الذي يكتبونه سيسهم في حيوات كثيرين. سيسهم فيها من حيث تحسين أوضاعهم وظروفهم وحقوقهم وقيمتهم كبشر، ومن حيث تأثير تلك الكتابة البالغ في تراكم وعيهم وامتداده، وما ينتج عنه من خيارات تصنع واقعاً جديداً ومعنى أجدّ لهم يضعهم في المقدمة من الفعل والتأثير والإسهام في إدارة دفة الحياة وتوجيهها؛ بل يتجاوز ذلك لامتداد تأثيرهم إلى ما بعد محيطهم ومكانهم بمراحل، بروعة الموقف ونصاعة النموذج الذي يقدمونه.

وتظل الكتابة أداة من أدوات استتباب الوعي والخيار وتراكمهما؛ حين يقف وراءها بشر تعني لهم حياة الآخرين قيمة لا تقل عن قيمتهم؛ إن لم تتقدَّم عليهم، بحرصهم على الدفاع عن قضايا الآخرين والذهاب في تذكير محيطهم والعالم بها حدَّ التوحد معها؛ كلما استشعرت تلك الكتابة خطراًَ يهدد ذلك الوعي أو محاولة تحييده ومحاصرته.

لا نريد للكتابة أن تتحول في نظرة شوفينية تبنتها - فيما يتعلق بأولوية الوجود - «سائر الجماعات الكلاسيكية الكبرى، التي رأت نفسها باعتبارها جماعة تحتل مركز الكون»، بحسب نص مؤلف «الجذور الثقافية للقومية ومنابع الوعي القومي» بندكت أندرسون.
نريد لها أن تلتفت للإنسان وهو في سلة مصير واحد. سلة رفاهيته نظراً وتقديراً، وسلة بؤسه تنديداً وفضحاً وتعرية لذلك الواقع وجحيمه

إنها الأشياء البسيطة التي تعيد لنا التوازن



نحن بحاجة إلى صناعة الأشياء البسيطة. البسيطة التي تكرس بساطة الحياة وتحض عليها، وما يجب أن تكون عليه تلك الحياة من حولنا. ثم إنه ليس كل بسيط ساذج وغير مؤثر. البساطة هي التي تجعل العالم اليوم في مأمن من أمراضه، وفي مأمن من توتره. كل الحروب والفتن في الدنيا كانت نتاج عقد وأمراض. وكل حالات الوئام والسلم كانت نتاج البساطة في العلاقات، والبساطة في التعامل مع الحياة. هي ذاتها الفطرة. البساطة لا تأتي ولا توجد إلا من انحياز الإنسان ونزوعه إلى الفطرة. الفطرة هي البساطة. أو يمكن القول: البساطة انعكاس لها.

وحين أقول، نحن بحاجة إلى صناعة الأشياء البسيطة، لا أعني بالضرورة صناعة آلات وأدوات يمكن استيعابها، والتحكم فيها لخدمتنا وترفيهنا؛ بل أذهب أبعد من ذلك؛ بإعادة تدوير وصناعة أخلاق وقيم كانت حاضرة ومهيمنة وتقود حركة الحياة من حولنا. لا أتحدث عن قرون خلت وعشرات العقود مضت. أتحدث عن عقود ثلاثة، تزيد أو تنقص. كان الإنسان البحريني خصوصاً، والخليجي عموماً، على رغم انفتاحه على كل تحولات وتغيرات العالم من حوله، أكثر انفتاحاً وتشبثاً بقيمه وأخلاقه وأصالته وبساطته في علاقاته مع من يعرف ومن لا يعرف، القريب منه والبعيد. أسس تلك القيم والأخلاق والأصالة ثابتة في عناوينها ومضامينها، وإن بدت متحركة في الوسط الذي ينتمي إليه وعلى ارتباط به، وهو تحرك لا ينال من تلك المضامين شيئاً.

أفسدت السياسة أرواحنا وأخلاقنا، وبالتالي طال ذلك كل بسيط وعفوي وفطري ومباشر في داخلنا. في تحياتنا وقبلاتنا وتواصلنا وقدرتنا على الصبر والحلم والأناة وضيق هامش العذر وانتهائه أو يكاد. أفسدت حياتنا صور وقيم وممارسات العالم الراهن، الذاهب في عقده وغموضه، على رغم مقولات «القرية الكونية» و «عولمة المعرفة» وهيمنة وسائل التواصل والاتصال على مجمل علاقاتنا وتنظيمها أو تدميرها في الوقت نفسه.

كل ذلك أخذنا إلى مزيد من حالات التوحد في البيت والعمل وفي كل صور وأشكال علاقاتنا. حاضرون في الهيئات والأشكال؛ ولكننا منفصلون عمن حولنا وعما يحيط بنا.

والدعوة إلى العودة للأشياء البسيطة وإعادة صياغتها، وإعادة تدوير القيم والأخلاق وصناعتها، تلك التي كنا عليها، لا تعني دعوة للانفصال عن طبيعة العصر. ذلك أمر بات ليس من أولويات ما يراد تحقيقه ولا يخدم مسعى تثبيت حضورنا في المقام الأول؛ لكن طبيعة هذا العصر لا تحمي أرواحنا وقيمتنا من الاستنزاف اليومي، بتفكك مزيد من العلاقات والروابط وانهيار كثير من القيم وتلاشي عديد من الثوابت. ما يحمي أرواحنا ويحصنها، هو العودة إلى تلك البساطة التي تختزل احترام الإنسان، وتعلي شأنه وقيمته وتضعه على رأس أولوياتها واهتمامها وانتباهها، بعيداً عن غفلات بالجملة حطت على رؤوسنا، فصرنا في وادٍ، ومن ننتمي إليهم في وادٍ آخر؛ عدا انفصالنا - عبر الاكتفاء بالفرجة - عن العالم من حولنا، وما يضج به من حركة.

وكل بسيط اليوم تتوق إليه نفسك وروحك؛ لأنه يقدم نفسه إليك بعيداً عن التصنع والادعاء ومحاولة التجمل. يقدم نفسه إليك كما هو وكما قدر له أن يكون. ولن تتصالح نفسك وروحك مع النقيض من كل ذلك؛ بحكم أن لكل واحد منا جهاز استشعار، بغض النظر عن مدى قوة استشعاره، تقدّماً أو تراجعاً؛ ولكنها كيمياء كل منا في حسه وقدرته على استشعار مواطن استغفاله أو استغلاله أو حتى التهكم على قيمته ومحاولات نفيه وتغييبه. تقدمت تلك الحاسة أو تأخرت؛ ولكنها تظل موجودة في كل واحد منا، تبعاً للموقف والزمان والمكان وموضوع الاستشعار نفسه.

وفي النهاية، كلما نزع الإنسان والعالم إلى البساطة في علاقاته وارتباطاته ومواثيقه وتعهداته، كلما خفّ صداعه وقلقه وتحفزه وانتظاره على وجل لانقضاض ومباغتة. كلما انحسرت قيم الغدر، وقيم الانتهاك وسوء الفهم والتقدير وسوء المعاملة عموماً. وكلما ذهب إلى النقيض، كلما كان إنسان هذا العالم، والعالم نفسه، عرضة لمزيد من تشرذمه وقلقه وعقده وجنونه واستعداده اللانهائي لمحو الحياة بإنسانها وأشيائها، وعندها، لن تكون تلك الصناعة بساطة؛ ستكون صناعة جنون وعقد وأمراض.

إنها الأشياء البسيطة التي تعيد لنا التوازن مع أنفسنا أولاً قبل أن تعيد لنا التوازن في التعامل مع العالم ومخلوقاته من حولنا

ربما كنت مشغولاً بماضٍ توهّمتَه مستقبلاً



قصائد الشرف، ليس بالضرورة أن يكون أصحابها من الشرفاء. قصائد التهتّك والمجون، ليس بالضرورة أن يكون أصحابها ماجنين.

في الشعر تظل الأمور نسبية، والحقائق نسبية، والتماس مع الواقع نسبياً. والذين يقرؤون الشعر بنيّة الإدانة، لا علاقة لهم بالحسّ. والذين يقرؤون الشعر بنيّة تطهير العالم مما يظنونه رجساً، ليس بالضرورة أن يكونوا طاهرين مادامت الأمور نسبية.

***


التفاهات لا تتراكم ما لم تجد المروّجين لها والمشجّعين على امتدادها وانتشارها. التفاهات لا مكان لها في عقل بشري حاضر ومتوقد وراصد. التفاهات تكتسب حضورها من الغفلة والتغاضي والتمرير، وأحياناً التشجيع. نعم ثمة من يمرِّر ويشجّع على هيمنة حضور التفاهات. فقط أولئك الذين لا يعنيهم شيء من معنى الحياة وقيمتها.

***


تحنُّ إلى الأفق الأزرق، في ظل هيمنة أكثر من أفق بلون الحِداد وبلون الحزن.
تحنُّ إلى الأزرق باعتباره دم الحضور وروحه، وباعتباره دم القدرة على الذهاب بثقة بالغة، في مواجهة كل أفق «كالح» و»حالك»، وكل أفق بلون اليأس، وبلون الفجيعة، وبلون الوداع الأخير.
***


في الينابيع تشعر بقيمة التجدُّد. تشعر بمعنى ألاَّ تكرّر نفسك وحضورك وفعلك ورؤيتك ونظرك إلى العالم، وإلى من حولك. في الينابيع درس بليغ مفاده: لا تكن نسخة من فعل غابر. لا تكن نسخة من مستقبل لم تطله يدك. ما لم تطله يدك لا ينفي مستقبله، ربما كنت مشغولاً بماضٍ توهّمته مستقبلاً.
***

ماذا يعني أن تصاب برعدة أمام الجبل الشاهق؟ ماذا يعني ألاّ تصاب بالشعور ذاته أمام ناطحة سحاب، ربما تكون أعلى من الجبل نفسه؟ إنها عفوية السمو. عفوية النشوء، وانعدام حال من الاستعراض. الاستعراض الذي يستفز روحك وأرواح الآخرين.

***


لا لوم على التفاحة التي بسبب اختبارها نمارس هبوطنا المتراكم والدائم والمستمر، بعد الهبوط الأول. التفاحة عنوان اختبار وامتحان، وليست الامتحان نفسه. اللوم على طرف الامتحان. اللوم على الإنسان في اندفاعه، وغياب بوصلات خياراته وبوصلات وعيه.
***

البيوت المضاءة فرح دائم. فرح مُعلن. فرح يُشهر في وجه كل حزن وعذاب وألم وعتمة.

البيوت المضاءة تعبير عن قدرة البشر والأمكنة على استفزاز الأوقات الصعبة، والأوقات التي تستنزف الروح أكثر من استنزافها القلب وأعضاءنا الحيوية. درس ليت البشر يدركون عمق أثره ومغزاه وقيمته، وليتهم يدركون الأثر الذي يُحدثه في الحياة وبشر الحياة.

***


ماذا تعني النجاة؟ هل هي أن تنجو بنفسك ولو احترق العالم؟ هل تعني أمانك الخصوصي، بعيداً عن أمان البشر وحتى الأشياء من حولك؟ هل تعني أن تكون في وضع يتيح لك النظر إلى المخلوقات من شرفتك، باعتبارهم كائنات ميكروسكوبية، ومن ثم لا ضير ولا بأس ألاّ ترى أحداً بحجمك الذي تظنه، ووزنك الذي تعتقده، وأهميتك التي كرّست كل يقين لتأكيدها وتأكيد محوريتها؟

النجاة ببسيط العبارة، ألاّ تخدش روح مخلوق من حولك، من دون أن تنسى عدم المساس بروح الأشياء.

قدرة الأوطان على تجاوز الإضافي والفائض


ترتجف روحك. ترتجف أوصالك حين لا يكون الوطن بخير. حين يكون معرَّضاً لانقسامه وتفتته.



يرتجف كل شيء فيك حين تصحو والناس شتى ليسوا على قلب واحد. كم تتمنى وتصلي كي ترى هذه الوطن - كما عهدناه - نقطة لقاء وجمع وتآلف ومحبة. لقاء على الخير كله، وجمع على قوته، وتآلف على تقدّمه وازدهاره، ومحبة نابعة من الروح له؛ كي يجتاز أزماته ومشكلاته.



لا شيء في الدنيا يعادل الأوطان، وهي في عافيتها وتآلفها وقدرتها ووعيها لتجاوز كل ما يقودها إلى المجهول.



لا حر ولا مواطن فيه شيء من الشرف يتمنى ذلك لوطنه. على العكس، يتمنى ويعمل على أن يرى وطنه في الصدارة وفي الذروة وفي المواقع والمواضع الرائدة التي تشرفه. ولا حر ولا مواطن فيه شيء من الشرف، يقبل الإساءة إلى وطنه. الإساءة إلى الأوطان، إساءة لكل ما يرتبط بها، وخصوصاً إذا كانت حريصة وفاعلة ومفعّلة للحقوق، ولا تنتظر منك إلا القيام بواجبك.



لا فجر لأي منا من دون وطن نلوذ به، ونعانق أول شمسه ووهجه وحرارته ورطوبته ومرحه وأزماته.



لا معنى لأي منا من دون معناه، ولا قيمة لأي منا من دون قيمته، ولا هيبة لأي منا من دون هيبته، ولا قامة لأي منا من دون قامته، ولا فرح لأي منا في حزنه، ونعلو على الحزن ونتجاوزه في فرحه.



لا إضافي بعده، حين يستحوذ على أرواحنا. لا إضافي بعد الأوطان. الإضافي إما أن يكون استدراكاً وإما أن يكون فائض حاجة. وللأوطان قدرتها على تجاوز الإضافي ولا فائض. الفائض بمعنى ما بعد الاكتفاء. لا أحد يكتفي بحب وطنه. الفائض يتجلى في قدرته على التعبير عن حبه لك بطرق شتى، وقدرتها على التعبير عن ذلك الحب بطرق شتى أيضاً.



من سعة الحال ألا يزايد أحد على أحد في حبه لوطنه، ومن صحة الأنفس والأرواح ألا يحرض أحد على أحد، ومن زكاة الأرواح وطهْرها ألا يجد أحد في حضور سواه تهديداً له، ومنبع قلق وتهديد يطارده ويتحسب له. كل الأوطان في الدنيا قامت وكبرت وازدهرت وتميزت وأنجزت بالتعدد الذي يضمها وتحترمه، وتقيم وزناً وقدْراً له، وعلى مسافة واحدة في التعامل معه. وكل الأوطان التي شذت عن ذلك كانت تكاليف مواقفها تلك أضعافاً مضاعفة، وتعيش بؤساً في الحضور، ولا نريد لأوطاننا أن تعرّج ولو فرجة على هكذا نماذج وأوضاع.



حب الأوطان من حب الله والقيم الفاضلة والعادلة، وحب الأوطان لأفرادها من حب الله والقيم الفاضلة ذاتها. معادلة لا تكلف موازنات وملاحق في الموازنات.



وطن كل منا محفل، ومحفل كل منا وطن. يأتي على صور وأشكال وشواهد متعددة، تأخذ بنا للوقوف على قيمته بمحافظته على قيمتنا، وتأخذ بنا للوقوف على طقسه اليومي لتقيس به طقسنا الخاص، وتأخذ بنا إلى خيارات حرصنا وخوفنا وذودنا عنه، وحتى احتجاجنا عليه حين يتركنا في مهب النسيان، نكتب، نتحدث، نتسامر بلغة القلب وبلغة الحرص وبلغة التطلع إلى أن نرى وطننا في صريح عافيته، وتجلي قدرته على تجاوز أزماته، وإمكاناته في إعادة الأزمنة الفارهة في جمالها وبساطتها وعفويتها وصدقها ولمًّا لكل شعث.



لا مستحيل بقدرة الأوطان وبشرها في أن تتجاوز كل صعوبات اللحظات والأوقات والأزمنة الدقيقة. يظل المستحيل كامناً في عدم استعداد أي منهما على التوجه بصدق ومسئولية نحو تجاوز ما ينغـِّص الوجود، ويسيء إلى الحياة، ولن تكون الحياة حياة، ولا الأوطان أوطاناً باستتباب الإساءات التي تتراكم من هنا وهناك.



فقط اتركوا كوَّة للشمس كي تضيء ما التبس وغمض عليكم. لا تدعوا مجالاً لهواة المنغصات والتفريق كي يقوموا بدورهم الذي انتظروه طويلاً. فقط اتركوا كوَّة للأمل كي يطل منها في ظل ما يشبه اليأس المستحكم والمهيمن على التفاصيل



النص... الكتابة بعد الربيع العربي


مثلما تعود الروح إلى بعض القيم والممارسات المضيئة والحقوق، في الربيع الذي تعيشه شعوب وأمم الأرض، ومن بينهم العرب - وإن تأخر ربيعهم طويلاً - تسترد الكتابة - النص عموماً - روحها وقيمتها وعمقها، من خلال فك الارتباط مع الخوف والملاحقة وهيمنة الرقيب على كل شبر من الحياة التي تتحرك فيها تلك الكتابة والنص عموماً.

 
قد تظهر أشكال، أو مزيج من أشكال جديدة في تلك الكتابة؛ لكن المهم، أن الكتابة والنص بعد الربيع العربي بالتأكيد لن يكون كما هو فترة الخريف والقحط الطويل الذي خنق الحياة العامة لكل الشرائح، وشعرت بضغطه شرائح الكتاب والمثقفين خصوصاً، بالنظر إلى طبيعة الدور الذي يقوم به أولئك، باعتبارهم إحدى علامات ومؤشرات الوعي وتوجيهه والتأثير عليه.

 
في الأزمات والاحتقانات وخنق الأفق العام الذي يطال المساحة التي يمكن للنص الابداعي التحرك فيها؛ لا يعدم الكاتب والمثقف عموماً طرق وحيل تجاوز كل ذلك، عبر لعبه باللغة ومجازاتها، وبمكر خلاق يجيده يستطيع تمرير ما يريد تمريره من قيم ومعاني وثيمات؛ لكنها تظل عصية في كثير من الأحيان على عدد كبير ممن تتوجه إليهم تلك الكتابة، قبل أن تكون عصية على فك شفرتها من قبل الذين يديرون ويولدون تلك الأزمات والاحتقانات والقمع؛ فضلاً عن الرقيب الذي توكل إليه مهمة مراقبة الحس! وتلك وظيفته التي كثيراً ما يفشل فيها لأنه في أغلب استجواباته للنصوص يكون من دون حس للقيمة والمعنى والثيمة التي يراد تمريرها، مهما تغوَّل في توهم المعرفة وإلمامه بما بعد النص.

 
الأفق النادر الذي تحرك فيه النص الابداعي العربي طوال عقود من منهجة المصادرة للحقوق، وإخضاعها للرقابة الشاملة، وخنق الأفق الابداعي خصوصاً؛ علاوة على جيش وكتائب من مثقفي ومفكري السلطة المهجَّنين، الذين يزيِّنون لها كل الخروقات والمساوئ، وضع النتاج الابداعي العربي في آخر ركب الاهتمام به في الحضور على مستوى قدرته على التماهي مع بقية النتاجات الإبداعية العالمية.

 
لم تتح أوضاع الرصد المستمر للمثقفين وما يصدر عنهم من نتاجات إبداعية أي تراكم أو تأثير ذي أهمية في الوعي الذي تنتج عنه هبة لتخليص واقعه - واقع الوعي - من ممارسة الاحتواء والرصد المستمرين عليه؛ ناهيك عن آلة القمع وتراتبياتها التي عززت تراجع فرص تحقق النتائج التي يمكن لذلك الوعي أن يخرج بها على واقعه المأزوم.

 
لا شك أن الالتفاف على الربيع العربي سيكون حاضراً في صور وأشكال شتى وتحت مسميات متعددة ومبررة بالقانون أو الأمر الواقع أو مقتضيات المرحلة، وهو التفاف ستتصدى له بقايا وأذناب الذين هيمنوا على الخريف والجحيم العربي وفرضوه أمراً واقعاً لعقود على شعوبهم.

 
ذلك أمر لا يمكن تجاهله؛ وبقدر الوعي بخطورة بقاء الأذناب، يمكن للحياة العامة في الربيع الوليد أن تسترد هواءها الأصيل ونظرها الحقيقي ووعيها المتراكم من دون خوف أو وجل؛ ما ينعكس بصورة أو أخرى على النص الإبداعي الذي فقد كثيراً من عمقه وقيمته وقدرته على التأثير وسحر توجيهه ورهانه على التغيير.

 
المهم في الأمر، أن يستطيع الربيع العربي الحفاظ على إنجازه، وحراسته ومده بكل مقومات استمراره وذهابه بعيداً ليمتد إلى مجمل الحياة العامة للمواطن، والتعامل مع مراحل التصحيح بروح يسودها القانون غير المتلاعب به، وغير الخاضع لتفسيرات المصالح والأهواء. حين يتحقق ذلك في بيئة تتنفس حرية والحقوق، وتعي ما لها وما عليها؛ سيكون النص الإبداعي متصدِّراً المشهد بتوغله بما أتيح له من فضاء جديد حر أوسع وأرحب، وسيكون قادراً على كشف كل كمين يريد الايقاع بالربيع في شرك أكثر من خريف وأكثر من جحيم. سيكون نصاً صانعاً للحياة ومدلاً عليها.

الخميس، 27 أكتوبر 2011

محبتي لهذا العالم محبة لله

محبتي للعالم أكبر من احتوائي له. الغيوم التي توهمت أنها تحجب شمس كل واحد ممن أحب وأقدر وأحترم؛ ستفاجأ بأن كل أولئك سيسخرون من مرورها العابر الذي ظنته مقيما. والصبر حليب رضعناه منذ بدأنا حضورنا إلى هذا العالم. والحذر لن تنجح كل المحاولات لتسويقه في أزمات مصطنعة. والطفولة نفتقدها بدليل الهرم في الخراب الذي يحيط بنا. والجنون نفتقده في هذه الهستيريا التي يبدو ألا نهاية لها. أما الحزن فنخرج منه مغسولين بترتيب فرح مفاجئ نخلقه في اعتلاء المآسي وزحامها. والكبرياء قامة في محراب وفي حقل وقت الهجير.

ندرك أن العالم لن يصغي إلى آمالنا؛ لكن ذلك لن يمنعنا من أن نصنعها ونضعها في طريقه؛ إن لم يرها فسيتعثر بها، كما ندرك أن التباهي بالنصر المتوهم هرم في الروح وخرف في الوعي.

التباهي حين ينتصر الجميع على آلامهم؛ حتى الذين يأبون روح تحديك للآلام لهم قسط من النظر إليهم وان كانوا مصدرها.

محبتي لهذا العالم من محبة أن أرى نفسي في ذاكرته التي لم تتم الهيمنة عليها وسرقتها أو توجيهها. محبتي له تنبع من تهديد يتعرض له هذا العالم في أخلاق بعض سكانه وقيمهم ورؤيتهم ونظرهم وتعاملهم مع بني جنسهم. محبتي تنبع من هذا الخليط الجميل والعجيب في الصفح والوئام النادر في عالم منذور لكل ما يعيده إلى أول شكله وأول صورته.

محبتي بوعي أن الأوهام لا يمكن لها أن تصنع عالما بروح. يمكنها أن تصنع عالما لا يسكنه ولا يقيم فيه إلا صانعه ومتخيله.

محبتي، في محاولتي ومحاولة كثيرين في الانتصار على الحجب مهما تعددت وتنوعت وراوغت في مسمياتها وحضورها. لا إنجاز في العالم يمكن له أن يظل خالدا ويذكر على كل لسان مثل إنجاز المحبة؛ إذ عن طريقها ومنها تستتب روح الإنسان من حيث فاعلية صفائها وقدرتها على إنجاز المبهر والجميل والمذهل؛ لينطلق الإنسان في مراكمة وتعميم وإشاعة كل ذلك، وتخطي كل المعوقات والأزمات التي تعترضه.

لن يتمكن هذا العالم عموما، وعالمنا خصوصا، من تجاوز أزماته ومشكلاته وهو يتنفس ويحيا ويتحرك ويتعامل وينجز وينام ويصحو في أجواء ومناخات من استفزاز، ومحاولة جره إلى الخروج على طوره وفطرته والمحبة التي جاءت به إلى هذا العالم (الله محبة) ولا يصدر عن المحبة إلا الحب وما يدل عليه ويريده أن يعم ويمتد في أروع الصور والمواقف والأهداف.

وليس بالضرورة أن يكون الذين يلوكون مفردة الحب ويرددونها بمناسبة ومن دون مناسبة مؤمنين بها، وحريصين على حضورها وامتداد أثرها. بعضهم يرى الحب الزائف مدخلا ومفتاحا ملائما للولوج إلى نوازع وأهداف تذهب في المقابل والمواجه لها؛ إذ ثمة من يستثمر في الكلام والمشاعر وما يسحر ألباب الناس وأفئدتهم لتحقيق مآربه وتطلعاته؛ فيما هو بعيد عنه (الحب) بعد أعمى البصيرة عن البصر، وبعد الجرافة وأدوات الاقتلاع عن تعهد حقل من الزهور؛ أو السهر على ألا ترى عين البشر إلا المروج والأخضر، وهو ألد الخصام في الذهاب إلى الرماد والعدم.

ولن يتمكن أحد من تعليم أحدهم كيف يحب. لا وصفة ولا شروح ولا خرائط للحب. الحب من بين كل المعاني السامية في الدنيا والكون الذي لا يحتاج إلى وصفة وشروح وخرائط تقدمه وتعرف به. إنه خارج الإحاطة به، وخارج توصيفه. إنه سحر الجاذبية وجاذبية السحر، يلقى في روع الإنسان فيغسل ما علق به من أدران، يعيد صياغة رؤيته لكل ما حوله، وهو على النقيض من الكراهية التي تتمثل في عالمنا اليوم بشواهد ونماذج وممارسات تعمل على تضخيمها وتمددها وشيوعها، كلما تمت تغديتها ورعايتها.

محبتي للعالم من حولي تنبع من محبتي لله، والله أصل المحبة وخالقها.

استعمار التاريخ للقناعات والنظر


كلما تعمق حال تخلف أمة من الأمم، وتراجع حضورها، وتحولت إلى عالة؛ استدعت التاريخ الذي كانت فيه غالبة ومهيمنة ومسيطرة على من حولها ومن يدور في فلكها، وما بعد ذلك الفلك.

وكلما اتسعت الغربة في حاضرها، كان الماضي ملاذا نموذجيا يشبع نهمها، ويسد فراغاتها في الحضور والقيمة، بعد اضمحلال وتوار وانمحاء. وأمة العرب خصوصا، من الأمم التي لا غنى لها عن العودة والحنين إلى التاريخ، في حال مرضية يبدو أنها ستظل مزمنة، في تعميق حال تراجعها على مدى طويل؛ قياسا بأداء الحضور، وقياسا بحجم ما دون الهامش الذي تعيشه.

الإنشداد إلى التاريخ، والاستغاثة به، وتكرار الاستشهاد بما تحقق وصار في دائرة ماض لن يلتفت إليه المستقبل قياسا بهيمنته واستيلإئه واحتوائه وتوجهه إلى ما بعد المستقبل، يكشف عن فجوة وغياب مطلق، كما يكشف عن فقر وانعدام في قوة الاستشهاد بما تحصل وتحقق في حاضر أي أمة. تجد في ذلك اللجوء عزاء لخسرانها وانسلاخها عن الإنجاز والحراك الإنساني في عمومه.

كل حنين إلى ماض وانشداد إليه، من دون محاولة تحريك أو دفع الحاضر ومنحه قيمة بالإنجاز، والعين على المستقبل؛ يظل محاولة لإخضاع إنسان ذلك الحنين والانشداد إلى تاريخانية قيمته وعزله عن مستقبل تلك القيمة. القيمة في القدرة عبر ماض متألق وفاعل وقادر على استيعاب قيم المستقبل والتفاعل معها والحوار والاختلاف بندية في اختراقاتها، وبناء على ذلك التأسيس، تدشين رؤية للعبور إلى مستقبل أكثر إدهاشا وقيمة وانجازا بالإنسان الذي أسس ودشن وأنجز تلك الرؤية.

المفارقة الصارخة والمكلفة، أن القائمين على مستقبل شعوبهم ويتحكمون في تفاصيل ذلك المستقبل (إن كان هنالك مستقبل أساسا بالأداء الماضوي على الأرض)، لا وقت لديهم لتأمل ماض يتغنون به في انهزامهم وانكساراتهم وانكشاف ضعفهم وهامشيتهم. تغن بعيد عن قراءاته واستيعابه ومحاولة الأخذ بيده إلى حاضر اختلفت أدوات التعاطي معه والتعايش مع التزاماته واشتراطاته. لا تأمل يذكر سوى غياب في ترك الحاضر يقود نفسه كما يشاء وأنى أراد. إلى الجهة التي توصل أو لا توصل، وليست تلك هي المسألة، ماداموا مضطلعين بأمر قيادة تلك الغيبوبة والغياب. ثم إن التأمل ترف ورخاوة كما يرون.

ومثلما أن التاريخ لا يستسلم لعاطفة أصيلة أو طارئة، يظل المستقبل أولى بتحصنه من تلك العاطفة المكلفة والمؤدية إلى مزيد من المجهول والافتتان بما تحقق؛ لأن العواطف ليس بالضرورة أن تصنع خيارات وقدرا وإنجازات ومحاولات لتجاوز بؤس اللحظة، عدا تجاوز بؤس وكوارث ونوازل يمكن أن تكمن في تفاصيل تأسيس حاضر أو محاولة للذهاب إلى المستقبل. في خلق روح الكيانات لا مجال ولا حضور للعاطفة في مسائل ومصير أن تكون الأمم أو لا تكون.

ثم إنه يمكن للتاريخ أن يتحول إلى استعمار أو "استحمار". استعمار للقناعات والنظر والقراءة و"استحمار" بمحو الاستفادة من قيمته وشواهده ودروسه. استعمار بمعنى هيمنته على روح الحاضر والذهاب به تسلحا إلى مستقبل لن تتاح لأحد فرصة اجتيازه بهكذا تسلح وتشبث وحنين ضالع في مرضه. استعمار من حيث تحكمه في صياغة وعي الحاضر والذهاب إلى المستقبل بالوعي ذاته.

وعي الشعوب يستعمر الزمن بقدرته على خلق إنجازات فارقة لزمنه ومستقبله، من دون الاستناد بشكل آلى ومطلق إلى إضاءات وإنجازات تاريخية ليس بالضرورة أن تكون قادرة على فهم لغة الحاضر ووعيه وترجمتهما عبر إنجاز مستقبلي. تلك هي المسألة.

التاريخ ليس غولا، ولكنه يتحول إلى أكثر من غول حين تحاول أمة بعثه من رقاده وتهميشه أو موته؛ فيما لا روح أو حياة فيه. والانسجام مع الحاضر يحتاج إلى روح؛ فيما التوجه إلى المستقبل يحتاج إلى أكثر منها.

______________

التاريخ ليس غولا ولكنه يتحول إلى أكثر من غول حين تحاول أمة بعثه من رقاده وموته وخصوصا الميت والمؤسف والأسود منه. الجانب الذي لا روح ولا حياة فيه ويراد له أن ينفخ روحا في موت قائم ومعاين.

القصيدة




شعر - سوسن دهنيم

القصيدة لا تنتهي...

القصيدة إذ تبتدي بالعناق...

القصيدة هذا الهواء الذي مر من رئتين...

القصيدة ليست سوى وردتين...

فواحدة في الكآبة أعلي

وأخرى إذا ضعت في فرحي خلسة

أحيل بها جنتي: جنتين...

القصيدة لا تنتهي

القصيدة كون متاح لنذرعه كيفما نشتهي...

القصيدة بعد الغروب تضيء الذرى...

القصيدة في أصلها أن ترى...

القصيدة قلب اليمام الذي فر من أسره

ثم عاد ليمسح أسراره في المكان...

القصيدة يوم سيأتي خلاصته:

إن أمس انتهى فادخلوا طائعين

إلى شيخه: كل مستقبل في الزمان...

القصيدة ذاك الغريب الوسيم

على متنه طفلة متعبه...

القصيدة إن أقسمت لن تعود إلى بيتها أمة

ستحشد كل الكوابيس في الجهة المرعبه...

القصيدة كل الحنين إلى رقصة الأرض

مثقلة بالأغاني...

القصيدة في فرح مطلق

حين تأسى... تعاني...

القصيدة تلك الطريق بلا وجهة أو دليل...

القصيدة تثري القليل...

القصيدة بحر بلا ساحل للوصول...

القصيدة من دمها كل هذي الفصول...



***

التذكر، وشم كئيب

خصوصا إذا جاء من جهة القلب...

لست أنسى المنافق في روحه والغريب الذي مر من جهة الأسئلة...

التذكر طير يحط على وحشة في المكان

لينجو هو الآخر المنتمي للمدى...

كأن الحياة إذا ما استطعنا الوصول إليها

محاولة لاختبار الردى...

ونترك أرواحنا مرتين

على درب أعبائنا للوصول

إلى فكرة أو غروب...

كل شيء يدل على بعضنا في الشحوب...

خوفك على الآخرين ضوء



سوسن دهنيم

لا نحتاج إلى مدافئ في هذه الأوطان. طقسها الحاد يمنحنا ذلك، وما بعده يمنحنا الجحيم في أجلى وأوضح صوره.

* * *

نريد شمسا. لا نريد جحيما يطول مخلوقات ويتغاضى عن أخرى. لا نريد جحيما لأحد. فطرتنا لن تسعفنا للانحياز إلى تلك الشهوة.

* * *

هذا الظلام الدامس ليس بالضرورة عنوان أزل، هو في العمق من المؤقت.

* * *

المحرضون على الظلام، صم عمي بكم. لا مكان لهم على خريطة الإشهار والعلن والعالم المفتوح.

* * *

لا تكتبك العتمة. يكتبك الضوء ويعلنك النهار الذي تخترعه وان كنت في اللب من الظلام.

* * *

أن تموت انتظارا للنور، خير من أن تعمر في الظلمة.

* * *

في النور لا ترى العدم. ستراه كلما لاح ليل.

* * *

كلما اضطربت أحوال العالم، كلما انحاز إلى شهوة غيابه. كلما انحاز إلى ظلمته.

* * *

الإصلاح، الفنون، المعارف، الحياة عموما، لم تتكبد العناء لتسوق لنا الليل. مهمتها الضوء والشمس.

* * *

سهرك في ليل ترتيب لنهارك. ذلك نهار آخر.

* * *

لا عاطفة في ظلام. لا شعور في قبر. العاطفة، الشعور، ينبعان من الصريح، من المؤثر، مما يدفعك إلى التحول والحركة.

* * *

الظلام انتظار وجمود. الضوء ذهاب وحيوية.

* * *

كل تفاهة ظلام. كل إدهاش ضوء غامر.

* * *

الإساءات، ظلام. المعروف، نهار.

* * *

لا ترى السهول والقمم في الظلام. تراها في صريح الوقت وعلانيته.

* * *

الظلام في أمس الحاجة إلى مصحة عقلية. الضوء في اللب من العقل.

* * *

يمكنك أن تفتقد الوقت والمكان في الظلام. في الضوء لا شيء يبعث على القلق.

* * *

حتى الرصاصة الغادرة لن تستغني عن الضوء لممارسة موهبتها.

* * *

لا خرائط في الظلام. في الضوء لا تحتاج إلى خرائط.

* * *

كل من يستجوب نواياك يحاول أن يمرر عتمته إليك. يحاول أن يتخلص من أعبائه.

* * *

مأساة أن تكون أوهامك النور، ويقينك الظلام.

* * *

خوفك على الآخرين ضوء. خوفك منهم ظلام.

فقه التجاوز.. تجلدك العين بالتأويل

العين التي تراقبك بشر. العين التي ترصدك وهي مدفوعة دفعا. العين التي ترصدك وقد استنفذت ماءها، لن تكون منصفة؛ ثم إن ذلك ليس في قاموسها، لن تكون حريصة عليك، بدليل انتهاك حرمتك.

انتهاك خصوصيتك، وانتهاك حقك في الحركة والكلام والفعل والانفعال؛ ما دام لا يشكل تهديدا، ولا يتجاوز النظم، ولا يخرج على القيم المعهودة. ذلك ما يجعلها خارج دائرة الطبيعة والبراءة.

العين التي تتلصص عليك تظل فارغة لا ماء ولا ضوء فيها. إنها تبحث عن عمى إضافي؛ بل هي تمارس العمى بهكذا فعل أخرق وخارج على كل قيمة. ثم إن العين التي تتلصص عليك ليست عينا، إنها عمى وحفرة من حفر هامشيتها وقلة حيلتها وعدم ثقتها واهتزاز قناعاتها، التي ليس بالضرورة أن تكون معنيا بها.

بات للرقابة فقه اليوم، يمكن تسميته بفقه التجاوز. ليس فضولا ما يصدر عنها. الفضول ليس بالضرورة أن يضمر لك أذى.

الرقابة التي تحكم دولنا، لا وقت لديها لممارسة الفضول؛ ثم إنه بممارستها اليوم تتجاوز الفضول إلى الأذى في الحياة العامة للفرد والأمة.

اصطلاح فقه التجاوز/الرقابة، لا يعني على الإطلاق الإشارة إلى ضوابط في الأمر، وخصوصا الأخلاقية منها. تلك خارج الحسبة، وخارج الهم والاهتمام.

والضوابط في حقيقتها - ضمن هكذا فقه - تجاوز للحقوق وقفز على القيم وانتزاع سافر لمساحة أي مخلوق، لا حق فيه. ليس فقها هو بقدر ما هو سياسات تجاوز وذهاب في تأويل لا يعلم رأسه من أطرافه. وحين تبدأ تلك الممارسة وتمعن في غيها وتجاوزها، تبرز مؤشرات تأويلات لها أول وليس لها آخر.

والكتابة هنا لا تذهب إلى الذين يتم دفعهم ونثرهم لإحصاء أنفاس الناس وانفعالاتهم وعواطفهم وآمالهم ويأسهم وحريتهم الخاصة وكبتهم بفعل سياسات لا تفهم غير التأجيل؛ بل تذهب إلى الذين أوكل إليهم التلصص على المعنى والتلصص على الفكرة والتلصص على الرؤية والتلصص على الطروحات، من حيث جنوحها الشاذ والكريه والمفتعل؛ تأليبا عليها وتحريضا على حضورها ووجودها، بالذهاب إلى تأويلات لا تفجع النص وتضربه في مقتل بسوء قراءته وفهمه واستيعابه وإدراك قيمته ومعانيه؛ بل بالأحكام المسبقة والجاهزة والمبتسرة والكيدية التي تدخله في مساحات من الحظر والحجز والمصادرة والنفي.

رقابة كتلك. عين كتلك تجلدك بتأويلها المزاجي المسبق. عين كتلك لن ترأف بك، ولن تنظر إلى نصك باعتباره قيمة بقدر اعتبار تهديدا لقيمتها وحضورها وهيمنتها، ومصدر خطر من الأولويات الحيلولة دون امتداده وبروزه وظهوره وإشهاره. ذلك أقل ولاء ترى تلك العين تقديمه من أجل إثبات حرصها وتفانيها ووعيها وحساسية "الفلتر" الذي الذي تحت هيمنتها، حين تمرر تلك النصوص/النوايا إلى سلطتها وتقييمها.

بدأت هذه الكتابة بفقه وسياسة ونوازع ونوايا ورصد العين وإحصائها لأنفاس الناس وانفعالاتهم وعواطفهم وآمالهم ويأسهم وحريتهم الخاصة عموما، وذلك ما تقوم عليه الدول التي بينها وبين مكوناتها حاجز لا يمكن كسره واختراقه في ظل تأبيد واستمراء السياسات نفسها؛ لأنها ليست على استعداد لذلك، ويحدث في الدول ناقصة الاهلية في التعامل مع شعوبها بالأساليب والصور والنظرة التي لا تقرها الشرائع السماوية والأرضية.

وحين أذهب في الاستدراك، ذلك أمر شائع وبات من بدهيات التعامل لدى كثير من المنظومات من حولنا اليوم؛ لكن الخطورة تكمن في فقه وعين تبذل كل طاقاتها من أجل الحيلولة دون وصول ما يثري الأمة والجماهير في وعيها وإدراكها وتصاعد فهمها لما يدور من حولها. عين تحاول إطفاء كل نور ومصادرة كل إضاءة، وهي بذلك لا تطفئ ضوءا بقدر ما تدل عليه، وتدفع الناس دفعا للبحث عنه وأحيانا الموت دونه.

في مقام الجثة ما لا يمنحك روحا


بات المثقف الذي يتفرج على جحيم شعبه والشعوب الأخرى، ساهرا على جنته وربيعه. لا يهمه إن بكرت أو تأخرت الفصول، ربيعا كان أو خريفا أو حتى عدما.

المثقف الذي يتفرج على الملهاة وما بعدها، لا شأن له بصناعة وعي، ولا شأن له بصناعة حياة. إنه شاهد خراب وشاهد نسف وشاهد نفي لكل ما ومن يتجرأ على الحياة.

المثقف الذي يقطع صلاته على مستوى شهادته على الجحيم أو الكارثة، هو الدليل إلى الجحيم والكارثة، في الوسط الذي يحيا ويتواجد فيه. هو واحد من المآزق الكبرى التي وجد هذا العالم نفسه محشورا في غائيتها ومصالحها وترتيب بيتها ولو على حساب دمار العالم كل العالم.

بات المثقف المدجج بصمته، قبالة عراء استهداف المخلوقات، درعا للذين لن يتركوا هذه الحياة ومخلوقاتها حرة في الذهاب إلى الجهة والناس والصوت الذي تنتخب والاحتجاج الذي تختار والتمرد الذي تراه آخر ضرورات تعديل نصاب الحياة المختل والمائل.

يتقن مثل ذلك المثقف المدجج بمكره الردئ كل أشكال التصالح والتواؤم مع المرحلة التي يشهد اختلال ما يظن أنه الثابت فيها، والمؤبد في الممارسة. يتقن الهروب إلى الأمام والوراء، لا ليحصن نفسه فحسب؛ بل ليحصن فضل المؤسسة التي أجرته شاهدا لا عين له كي يرى، ولا حس كي يشمئز، ولا سمع كي يصم أذنيه عن تبرير سوق المخلوقات سوقا إلى جحيم أرضي يعده ولي نعمته.

وبات المثقف الذي يحرص على اقتناء آخر سمفونيات الدنيا، ضجرا ومنزعجا من سمفونيات ألم من حوله، وباتت تشكل أظافر وكلابات تقلق جلده الرخو، وتهدد بشرته التي تنعمت من مساحيق المديح والعطايا أو حتى الرضا.

يحرص ذلك المثقف على التأكد من سلامة أطرافه، وإن ذهب عمق محيطه إلى العدم. لا تزعجه الأحذية التي تطأ، ولا الآلة التي تسحق، ولا العار الذي يمتد، ولا الفقد الذي يتطاول.

أن يصحو وقد رتب فصوله ومناخاته وغده الذي يرى؛ وإن صحا الخلق على عدم.

بات مثل ذلك المثقف مشغولا بإحصاء أعداد السياح والإمعان في الدهاليز التي أتقنها، والشرف القابل لإعادة التأهيل، والضمير الذي يتركه في إجازة مفتوحة، ويتمنى عدم عودته. مثل ذلك المثقف يجعل من الفطرة جريمة، ومن الحق تآمرا على الحياة، ومن الباطل أول شاهد للنبل، ومن حدوة حصان مئذنة وشرفا، ومن النفايات حدائق مفتوحة على مخلوقات متوهمة.

مثقف بتلك المواصفات والخزي، يترك العالم عرضة لعرائه؛ فيما يتوهم أنه محصن من عراء.

يقوده مزاج الدهاليز المؤدية إلى "القبض". عرضة هو الآخر إلى الضروس من الاستهداف والتوغل في كهوف لا حصر لها.

يأوي مثل ذلك المثقف إلى سياحة من نوع آخر. سياحة النسيان. نسيان ما يدل على ما رأى وعاين، ولا يريد تذكر رؤيته ومعاينته.

لا يحب النوافذ التي تطل عليه، وتطل على خزيه وصمته وعمر طويل من شهادة الزور. عمر طويل ولو كان بمقياس اللحظة التي يقتنع فيها أنه يؤدي دورا في مصلحة الحياة ودوام حيويتها؛ فيما يذهب بكل طمعه وأمراضه إلى حيويته الخاصة. حيويته المتوهمة. حيوية الجثة التي يحياها!

كأنه ينحاز إلى كل جثة من حوله. ما لا يمنحك روحا هو في ترتيب ومقام الجثة، إن كان للجثة مقام. ينحاز "بوعيه" الذي يستهدف كل رجرجة للتساؤل والاحتجاج والإمعان في التمسك بقيمة الحق.

لن يستطيع مثل ذلك المثقف إقناع جثة ملقاة على الطريق بأنه أحد العابرين الذين اكترثوا بها وقرأوا عليها فاتحة تليق بهيئتها وهيئة المكان الذي وجدت فيه؛ وعليه بعدها أن يهيء نصه لإقناع مخلوقات تضج بالحيوية بأنه واحد ممن ينتسبون إلى الأرواح والحس.

مثقفون كأولئك، يستهترون بالحياة وما يرتبط بها، ولا يهمهم ما يؤدي إليه مثل ذلك الاستهتار؛ ماداموا ممعنين في الذهاب إلى نسيانهم بانفصال وانفصام بالغين

قراءة كل عين حتى المنطفئ منها


للعين قدرة الفضح والصفح وقدرة القهر. للعين قدرة القتل أيضا، وخصوصا لأصحاب القلوب العفيفة الصادقة التي لا تروم قضاء وطر لتبدأ وطرا آخر.

للعين القدرة على اختصار الكلام؛ بل استدراجه ليعلن عن نفسه ونصه.

للعين تلك الطاقة التي ترى من خلالها إما ضعفك أو قوتك من خلال قوة أو ضعف صاحبها.

للعين تلك القدرة على أن تأخذ بك إلى علو أو أن تستدرجك إلى هاوية.

في العيون كلام من بريق. في العيون اليوم بصمة تحدد مواطنتك الكونية الصالحة أو الطالحة.

لكأن العين مرآة كشف ما هو لصيق بك أحيانا ولكنك لا تراه. تحتاج إلى مرآة لتقدمه لك. تماما هي العين. مرآتنا لما لا نرى وهو قريب منا أقرب من حبل الوريد.

وفي العين تعرف الرضا وتميزه عن السخط. تعرف اللهفة والنفور. تعرف طهرانية أحدهم أو عربدته وخلاعته.

لكل عين سحرها. بعضها سحر فاتن بذروة روعته وجماله، وبعضها سحر صاد ودافع بذروة روعه وقبحه.

لكل عين بصمتها وقدرتها على تركنا في مهب حيرة أو كشف. نتقمص أرواح سوانا أمام العيون التي لا تترك لك مجالا للتأويل. نتقمصها لنهرب منا. من أرواحنا. من أعبائنا ومن أخطائنا.

تنشغل بالعيون التي تعنيك. عيون أصدقاء وأحبة وأهل وحتى عابري سبيل، تلمس بمجساتك الخاصة قدرا من البراءة أو الدفء فيهم. لم تلتقهم. لم يتح لك الوقت الكافي كي تستدرج عيونهم إلى اعتراف وكشف عابر؛ لكنك لن تعدم طريقة بمجساتك تلك من تحديد الأولي من معدنها وتحديد قدرتك على أن تضعها باعتبارك أو تضعها ضمن قائمة طويلة من بشر وعيون عبرت واجتازت حياتك وأوقاتك وأمكنتك من دون أن يلوح فيها بريق.

حتى العيون المنطفأة التي جاءت إلى الدنيا وقد خطف بريقها، يمكنك تلمس بريق استثنائي فيها. بريق أن تشتهي الرؤية وتتمناها تلك العيون. أن تتعرف على عائلة الألوان والملامح، وخصوصا ملامح من أنجبهم وتظل رؤيته لهم عبر اللمس. تظل حاسة اللمس عينا أخرى. عينا جانبية يحدد بها شكل ولون وملامح من أنجب.

وثمة عيون تذكرك بالصحارى التي لا شيء يدل على الحياة فيها. وثمة عيون تأخذك إلى نزهة وسياحة. إلى جنان الله القائمة والتي تفترضها وتدشنها في مخيلتك.

وبعض العيون سفر سريع في وسيلة نقل أسرع، وبعضها إقامة فيك. في روحك وفي ما يضمن توازنك النفسي والروحي. لا تفتقد الأولى، وتظل في حنين دائم وانشداد مستمر للثانية. كل ما يمنحك التوازن في النفس والروح تظل باحثا عنه وقائما عليه.

وعلينا ألا ننسى عيونا من أحبتنا تهبنا السعة من الخيال في ثراء سحرها، تأخذ بنا إلى ما بعده بمراحل؛ فيما عيون أخرى تحجم قدرتنا على طاقة الخيال نفسه. تدفع بنا دفعا للعودة إلى العاجز منا ومن إمكاناتنا.

لا أحد يصطفي العين التي يبتغي. العيون عبور في دنيانا، سفر لالتقاط الأرواح. سفر سريع يحتاج منا إلى أن ننتخب ونلتفت إلى ما يرتقي بأرواحنا، وما يأخذ بنا إلى حشد وتراكم من سمو.

فقط انتبهوا إلى عيون أحبتكم ما أضاء منها وما أنطفأ. منها يمكنكم أن تحددوا حتى مؤشر العاطفة والقبول والسخط والتذمر، وحتى تمني ألا تكونوا من رعايا هذا الكوكب في الصباح الذي يليه.

ثم إن قراءة العيون تكشف عن صاحبها وقلبه. تكشف عن قدرته على هتك حجاب ما ظن صاحبه أنه عصي على الدنو أو الاقتراب منه.

وسيد القصيدة الذاهبة في دهشتها وعيونها على العالم وتفاصيله بامتياز، محمود درويش، في "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي"، يستعرض عيونا من نوع آخر. عيون الحياة والعاطفة واللحظة والزمان بمجمله وأسوار المكان وإن كان مفتوحا في توهم قائم، وهامش الجمال في الضفتين، ضفة الأفق وضفة الحجز. يستعرض عيونا تائهة في ما بعد الألوان، الأخضر والأزرق والعسلي، ومن بينهم العشب ولون الماء وأوقات أثيرة على الروح، وخصوصا الأول منه: الفجر:

عينان تائهتان في الألوان

خضروان قبل العشب

زرقاوان قبل الفجر

تقتبسان لون الماء

ثم تصوبان إلى البحيرة نظرة عسلية

فيصير لون الماء أخضر