الاثنين، 31 أكتوبر 2011

جغرافيا العتمة



الذوات تحن إلى الهدوء. الجمادات أيضاً لا تغفل عن ذلك الحنين. يُجرح البياض في تسيّد العتمة. يُجرح حين يراد له أن يتوارى. أن تحتل العتمة والقبح كل زوايا المشهد. عالمنا مشاهد ذاهبة في النقيض. نقيض الحقوق ونقيض الغلبة ونقيض الاستواء ونقيض الطرق المسورة والمطرزة بالحواجز. حواجز من كل لون تتقصى سحنتك ولكنتك ومذهبك وحتى ذوقك الهامشي. لا يستعصي الوصول إلى المراعي في الحياة؛ لكننا في نهاية المطاف - من المفترض - خارج تصنيف تلك الكائنات. لا تبدأ حياتنا بعلف وتنتهي بنهايته. ندرك الفارق بين الشرط والخيار، وندرك الفارق بين أن تكون أنت أو نسخة يراد لك أن تكونها وفق اشتراطات مذلة حتى للحجر؛ عدا الإنسان.

لهذه القيمة قصة أخرى معنا، مع ذواتنا، مع خياراتنا التي يراد لها أن تكون موجهة ومسيرة؛ بعدها لا ذوات ولا خيارات مع هكذا وصفة مذلة لقيمة الأشياء قبل البشر.

حين يستسلم أي منا إلى عتمة تجتاحه؛ يصبح موضوع سرد واغتياب واستباحة لذاته. لا عتمة يمكنها أن تقدمك كما أنت. ستستعرضك في نهارها الخصوصي؛ فيما أنت غارق في النقيض. كل عتمة درس ومخطط لاستباحة الضوء فيك. استباحتك من أول الوقت إلى مصادرته. لن يستوعب أحد هذا الدرس ما لم يمر بمختبر حصار وانتهاب يرجع ذاته إلى الحجر المهمل في درب لا يعبره أحد!

جغرافيا من العتمة التي لا تكاد تميز فيها بين أصابعك وأظلاف. تنهش اليسير من لحمك. جغرافيا عتمة تنسدل أمام سطوتها كل أضواء وقناديل في المهرب من المكان والحس. لا قدرة لك على إضاءة حتى في جغرافيا وهمك. ثم إنه لا سلطة لك حتى على الوهم قبالة شهوة جغرافيا تمعن في الملح والأظلاف وسوقك إلى النهايات الجاهزة لديها.

لا ذاكرة لك في جغرافيا كتلك. العتمة ذاكرة كل شيء. ذاكرة المكان والوقت. لا جدوى للذاكرة في هكذا هول. الذاكرة أن ترى ولو بأذنيك، ولو بحاسة شمك، ولو باليسير من حواس جسدك. كل ذلك رهن الاستباحة ورهن اليأس ورهن المبْرد الذي يبدأ بلحمك قبل عظمك، ومن قبلهما ذاكرتك.

تختزل العتمة البشر الذين تصطفي في عجزهم عن الرؤية كما يجب وانتهاب أرواحهم، والصراخ في عتمتهم الطارئة قبل المقيمة كما يجب أيضاً. لا أحد يقوى على مصادرة روح وخيار وحيز أحد ما لم يكن هو في غفلة من روحه وخياره وحيزه؛ لكن ذلك لا يشرع لكل هذه الاستباحة لدرجة العهر المحض أمام خيارات المخلوقات في النظر إليها كقطيع لا مالك له سوى العتمة وأربابها، وهي الوارثة له.

هذا اليباس الذي تتعامل معه الجغرافيات ومن يسوسونها عبر شهوة العتمة تلك، لا يلغي بأي حال من الأحوال مواطن التوهج ومواطن الأيائل في رشاقتها أمام فتور وشلل المحيط ومواطن الذهب في زمنة وأبدية الفاقة والبؤس. وإن لم يتحقق لها ذلك، لن تمنحها العتمة الرابضة على روحها أتفه صفة المعادن؛ فيما هي ممعنة في استفزاز وإرهاق أرواحها.

في العتمة، ثمة رائحة شواء لحم بشري. ثمة كرنفالات لاستعراض أكثر من سبي في سكرة الاختطاف ذات غفلة وذات سوء تقدير وقراءة. في العتمة بنادق تحتل حيز المثمر من أشجار البندق والغاف وحتى الأشجار التي تجاوزت كهولتها وفي الطريق إلى التلويح بيباسها؛ لكنها تظلل الأرواح قبل الرؤوس.

في جغرافيا العتمة تلك، لا تاريخ يمكن تذكره. لا حواس يمكن اختبارها أو معاينتها. لا ذوق يمكن أن يستعرض إلمعاته. لا نص يمكن له أن يقرأ أو يبهر في مدى لا يرى. لا قدرة لأحد على اكتشاف الفارق بين الحديد والحليب. بين النار ومكعبات البوظة في ظل هكذا عقيدة مهووسة بتكريس العتمة إلهاً. كل متجسد هو بمثابة أسياخ، وأصوات الكلاب والصراخ في جلسات المقامع سيمفونية تلائم هيمنتها وذهابها في القبيح من الفعل ونقيضه.

في جغرافيا العتمة لا عين يمكن أن تكون وقحة تصرخ في هذا السديم الأعمى: أرى ما لا يرى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق