كلما تعمق حال تخلف أمة من الأمم، وتراجع حضورها، وتحولت إلى عالة؛ استدعت التاريخ الذي كانت فيه غالبة ومهيمنة ومسيطرة على من حولها ومن يدور في فلكها، وما بعد ذلك الفلك.
وكلما اتسعت الغربة في حاضرها، كان الماضي ملاذا نموذجيا يشبع نهمها، ويسد فراغاتها في الحضور والقيمة، بعد اضمحلال وتوار وانمحاء. وأمة العرب خصوصا، من الأمم التي لا غنى لها عن العودة والحنين إلى التاريخ، في حال مرضية يبدو أنها ستظل مزمنة، في تعميق حال تراجعها على مدى طويل؛ قياسا بأداء الحضور، وقياسا بحجم ما دون الهامش الذي تعيشه.
الإنشداد إلى التاريخ، والاستغاثة به، وتكرار الاستشهاد بما تحقق وصار في دائرة ماض لن يلتفت إليه المستقبل قياسا بهيمنته واستيلإئه واحتوائه وتوجهه إلى ما بعد المستقبل، يكشف عن فجوة وغياب مطلق، كما يكشف عن فقر وانعدام في قوة الاستشهاد بما تحصل وتحقق في حاضر أي أمة. تجد في ذلك اللجوء عزاء لخسرانها وانسلاخها عن الإنجاز والحراك الإنساني في عمومه.
كل حنين إلى ماض وانشداد إليه، من دون محاولة تحريك أو دفع الحاضر ومنحه قيمة بالإنجاز، والعين على المستقبل؛ يظل محاولة لإخضاع إنسان ذلك الحنين والانشداد إلى تاريخانية قيمته وعزله عن مستقبل تلك القيمة. القيمة في القدرة عبر ماض متألق وفاعل وقادر على استيعاب قيم المستقبل والتفاعل معها والحوار والاختلاف بندية في اختراقاتها، وبناء على ذلك التأسيس، تدشين رؤية للعبور إلى مستقبل أكثر إدهاشا وقيمة وانجازا بالإنسان الذي أسس ودشن وأنجز تلك الرؤية.
المفارقة الصارخة والمكلفة، أن القائمين على مستقبل شعوبهم ويتحكمون في تفاصيل ذلك المستقبل (إن كان هنالك مستقبل أساسا بالأداء الماضوي على الأرض)، لا وقت لديهم لتأمل ماض يتغنون به في انهزامهم وانكساراتهم وانكشاف ضعفهم وهامشيتهم. تغن بعيد عن قراءاته واستيعابه ومحاولة الأخذ بيده إلى حاضر اختلفت أدوات التعاطي معه والتعايش مع التزاماته واشتراطاته. لا تأمل يذكر سوى غياب في ترك الحاضر يقود نفسه كما يشاء وأنى أراد. إلى الجهة التي توصل أو لا توصل، وليست تلك هي المسألة، ماداموا مضطلعين بأمر قيادة تلك الغيبوبة والغياب. ثم إن التأمل ترف ورخاوة كما يرون.
ومثلما أن التاريخ لا يستسلم لعاطفة أصيلة أو طارئة، يظل المستقبل أولى بتحصنه من تلك العاطفة المكلفة والمؤدية إلى مزيد من المجهول والافتتان بما تحقق؛ لأن العواطف ليس بالضرورة أن تصنع خيارات وقدرا وإنجازات ومحاولات لتجاوز بؤس اللحظة، عدا تجاوز بؤس وكوارث ونوازل يمكن أن تكمن في تفاصيل تأسيس حاضر أو محاولة للذهاب إلى المستقبل. في خلق روح الكيانات لا مجال ولا حضور للعاطفة في مسائل ومصير أن تكون الأمم أو لا تكون.
ثم إنه يمكن للتاريخ أن يتحول إلى استعمار أو "استحمار". استعمار للقناعات والنظر والقراءة و"استحمار" بمحو الاستفادة من قيمته وشواهده ودروسه. استعمار بمعنى هيمنته على روح الحاضر والذهاب به تسلحا إلى مستقبل لن تتاح لأحد فرصة اجتيازه بهكذا تسلح وتشبث وحنين ضالع في مرضه. استعمار من حيث تحكمه في صياغة وعي الحاضر والذهاب إلى المستقبل بالوعي ذاته.
وعي الشعوب يستعمر الزمن بقدرته على خلق إنجازات فارقة لزمنه ومستقبله، من دون الاستناد بشكل آلى ومطلق إلى إضاءات وإنجازات تاريخية ليس بالضرورة أن تكون قادرة على فهم لغة الحاضر ووعيه وترجمتهما عبر إنجاز مستقبلي. تلك هي المسألة.
التاريخ ليس غولا، ولكنه يتحول إلى أكثر من غول حين تحاول أمة بعثه من رقاده وتهميشه أو موته؛ فيما لا روح أو حياة فيه. والانسجام مع الحاضر يحتاج إلى روح؛ فيما التوجه إلى المستقبل يحتاج إلى أكثر منها.
______________
التاريخ ليس غولا ولكنه يتحول إلى أكثر من غول حين تحاول أمة بعثه من رقاده وموته وخصوصا الميت والمؤسف والأسود منه. الجانب الذي لا روح ولا حياة فيه ويراد له أن ينفخ روحا في موت قائم ومعاين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق