محبتي للعالم أكبر من احتوائي له. الغيوم التي توهمت أنها تحجب شمس كل واحد ممن أحب وأقدر وأحترم؛ ستفاجأ بأن كل أولئك سيسخرون من مرورها العابر الذي ظنته مقيما. والصبر حليب رضعناه منذ بدأنا حضورنا إلى هذا العالم. والحذر لن تنجح كل المحاولات لتسويقه في أزمات مصطنعة. والطفولة نفتقدها بدليل الهرم في الخراب الذي يحيط بنا. والجنون نفتقده في هذه الهستيريا التي يبدو ألا نهاية لها. أما الحزن فنخرج منه مغسولين بترتيب فرح مفاجئ نخلقه في اعتلاء المآسي وزحامها. والكبرياء قامة في محراب وفي حقل وقت الهجير.
ندرك أن العالم لن يصغي إلى آمالنا؛ لكن ذلك لن يمنعنا من أن نصنعها ونضعها في طريقه؛ إن لم يرها فسيتعثر بها، كما ندرك أن التباهي بالنصر المتوهم هرم في الروح وخرف في الوعي.
التباهي حين ينتصر الجميع على آلامهم؛ حتى الذين يأبون روح تحديك للآلام لهم قسط من النظر إليهم وان كانوا مصدرها.
محبتي لهذا العالم من محبة أن أرى نفسي في ذاكرته التي لم تتم الهيمنة عليها وسرقتها أو توجيهها. محبتي له تنبع من تهديد يتعرض له هذا العالم في أخلاق بعض سكانه وقيمهم ورؤيتهم ونظرهم وتعاملهم مع بني جنسهم. محبتي تنبع من هذا الخليط الجميل والعجيب في الصفح والوئام النادر في عالم منذور لكل ما يعيده إلى أول شكله وأول صورته.
محبتي بوعي أن الأوهام لا يمكن لها أن تصنع عالما بروح. يمكنها أن تصنع عالما لا يسكنه ولا يقيم فيه إلا صانعه ومتخيله.
محبتي، في محاولتي ومحاولة كثيرين في الانتصار على الحجب مهما تعددت وتنوعت وراوغت في مسمياتها وحضورها. لا إنجاز في العالم يمكن له أن يظل خالدا ويذكر على كل لسان مثل إنجاز المحبة؛ إذ عن طريقها ومنها تستتب روح الإنسان من حيث فاعلية صفائها وقدرتها على إنجاز المبهر والجميل والمذهل؛ لينطلق الإنسان في مراكمة وتعميم وإشاعة كل ذلك، وتخطي كل المعوقات والأزمات التي تعترضه.
لن يتمكن هذا العالم عموما، وعالمنا خصوصا، من تجاوز أزماته ومشكلاته وهو يتنفس ويحيا ويتحرك ويتعامل وينجز وينام ويصحو في أجواء ومناخات من استفزاز، ومحاولة جره إلى الخروج على طوره وفطرته والمحبة التي جاءت به إلى هذا العالم (الله محبة) ولا يصدر عن المحبة إلا الحب وما يدل عليه ويريده أن يعم ويمتد في أروع الصور والمواقف والأهداف.
وليس بالضرورة أن يكون الذين يلوكون مفردة الحب ويرددونها بمناسبة ومن دون مناسبة مؤمنين بها، وحريصين على حضورها وامتداد أثرها. بعضهم يرى الحب الزائف مدخلا ومفتاحا ملائما للولوج إلى نوازع وأهداف تذهب في المقابل والمواجه لها؛ إذ ثمة من يستثمر في الكلام والمشاعر وما يسحر ألباب الناس وأفئدتهم لتحقيق مآربه وتطلعاته؛ فيما هو بعيد عنه (الحب) بعد أعمى البصيرة عن البصر، وبعد الجرافة وأدوات الاقتلاع عن تعهد حقل من الزهور؛ أو السهر على ألا ترى عين البشر إلا المروج والأخضر، وهو ألد الخصام في الذهاب إلى الرماد والعدم.
ولن يتمكن أحد من تعليم أحدهم كيف يحب. لا وصفة ولا شروح ولا خرائط للحب. الحب من بين كل المعاني السامية في الدنيا والكون الذي لا يحتاج إلى وصفة وشروح وخرائط تقدمه وتعرف به. إنه خارج الإحاطة به، وخارج توصيفه. إنه سحر الجاذبية وجاذبية السحر، يلقى في روع الإنسان فيغسل ما علق به من أدران، يعيد صياغة رؤيته لكل ما حوله، وهو على النقيض من الكراهية التي تتمثل في عالمنا اليوم بشواهد ونماذج وممارسات تعمل على تضخيمها وتمددها وشيوعها، كلما تمت تغديتها ورعايتها.
محبتي للعالم من حولي تنبع من محبتي لله، والله أصل المحبة وخالقها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق