«والسراب كتاب المسافر في الليل...
لولاه، لولا السراب،
لما واصل السير بحثاً عن الماء»
محمود درويش
ليس وحده السراب الذي يدفع بدويّاً إلى تقصي الوهم. ليست الغيمة التي تخذله. بعض ذلك في السماء، وبعضه في الأرض. ولا نخشى على ما ظنَّه سراباً في السماء. لذلك حكمته وشروطه. ما نخشاه هو السراب والوهن اللذان تكاد تكتظ بهما الأرض.
ليس سراب محمود درويش في «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي». والقصيدة لا تنتهي لدى شاعر أمسك بعصَب اللحظة، ولوَّح بها في فراغات بالجملة، فقط ليقول رأيه في أن القصيدة وجع الحياة بامتياز. وجعها من حيث قدرتها على ملاحظة الفارق بين اللهو والملهاة، وبين وجع البحث عن مأوى أصيل ووحيد وضروري، وبين وجع النقرص!
ليس سرابه في سذاجة البلاد والمكان؛ بل في سذاجة من يقطن السراب ذاته.
لا مواعيد يمكن أن تضرب، ولا سمَر يمكن أن يُتفق عليه، حين يذهب المنافق في صَلاته بحثاً عن مزيد من صِلاته القابلة للفتك. حين يذهب المسافر اللامنتمي بحثاً عن جهات، ربما دشنت أول عذاباته من دون أن يدري. حين يذهب المناضل في رخاوة الاتفاقات الجانبية بيعاً للدم وكل القيامات التي كان شاهداً عليها. حين يذهب الكاتب تحسُّساً لرصيده في المصارف، ولو صرفت الأمة إلى حتفها الخيالي. فثمة أكثر من حتف خيالي اليومي يرعاه هذا اللهو الممتد من الصبر حتى الانحناء على قبر هو ثمرة إصلاحات مقترحة ترى في مزيد من القبور تخفيف أعباء على الذين لا يجدون موطئ قدم في رصيف نادر غير محاصر.
ظل محمود درويش طوال حفره والذهاب إلى الحدود اللامتناهية من الدهشة، التي كشفت غفلة وسطحية كثيرين، وخصوصاً في نبوءته بسيادة الخراب، منحازاً إلى تربية القمح والأفق، ومنحازاً إلى تربية رعاة يضيفون إلى الفضاء من حولهم براءة بعفويتهم وقدرتهم على التماس معه.
ظل كارهاً للغروب؛ وإن تكرَّر في معجمه في أكثر من نص ومجموعة شعرية، متواطئاً مع أول النهار، وأول الحركة، مع قناعة عمَّال يذهبون إلى عنائهم بسبحانية الأمل؛ فيما أرباب العمل في خلاعة رفاهيتهم يهندسون شقاءهم وشقاء أحفادهم. ظل منحازاً للأمل ووردته، لا فرق لديه نبتت في رأس صخرة أو طريق موحل أو على شاهد قبر.في السراب الممعن في حضوره، يتمثل درويش سياسات ومواقف وشواهد الانحياز للرقص والسمر على طوفان دم لم يحن وقت استراحته. حتى الربيع العربي لم يكن بمنأى عن نبوءته في نص «على محطة قطار سقط عن الخريطة»:
«كنا طيبين وسذَّجاً...
قلنا: البلاد بلادنا...
قلب الخريطة لن يصاب بأي داء خارجي»...
ما يكشف عن سخرية عميقة تعني المقابل والنقيض، في عروق بات الدم فيها رهن المسافة الفاصلة بين صرخة الاحتجاج والقبر. رهن قدرتها على تدشين بيان خروجها على هذا الغروب الذي استمرأ حضوره الثقيل.
وهي النبوءة ذاتها في: «هناك موتى يوقدون النار حول قبورهم، وهناك أحياء يعدُّون العشاء لضيفهم»، في لعب على المفارقات وعلى النقائض، وعلى حياة ذاهبة إلى موتها باطمئنان راسخ، وعلى موت ذاهب إلى الاطمئنان ذاته ببلوغ أرسخ. أكثر معنى وقيمة وعمقاً. ذهاب يتحرَّى الفارق بين العادات والمعنى، وللعادات قدرتها على عدم النسيان؛ فيما المعنى يذهب في تذكُّره، ويصنع ذاكرته الاحتياط؛ حين يتحرَّش به حرَس النصوص وحرَس النوايا!
ظل درويش وفياً للمصادفات؛ مثلما كان وفياً للقرائن؛ لكنه ظل في بعض الأحيان مرتبكاً أمام القرائن التي تُمرَّر في الحياة للإيقاع بالذين لم يدعوا بشرايينهم سلطة مخاطبتهم في المسير الطويل إلى ليلهم كي يضعوا حداً له؛ أو للذين كانوا إخوة الحَمَام في طريقه إلى الأعشاش المفتوحة على الهواء والشرفات.
كان شاعر النسيان في حضور ألق الحياة، وكان شاعر الذاكرة حين تزدحم بشهوة الفناء، وكان صديقاً للسراب في حيِّزه الخاص، ولا يتعدَّاه فرحاً حين يصيب حيِّز الآخرين.
هل كان يعني حقاً «من سوء حظيَ أني نجوت مراراً من الموت حباً...
ومن حسن حظيَ أني مازلت هشّا
لأدخل في التجربة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق