الخميس، 27 أكتوبر 2011

في مقام الجثة ما لا يمنحك روحا


بات المثقف الذي يتفرج على جحيم شعبه والشعوب الأخرى، ساهرا على جنته وربيعه. لا يهمه إن بكرت أو تأخرت الفصول، ربيعا كان أو خريفا أو حتى عدما.

المثقف الذي يتفرج على الملهاة وما بعدها، لا شأن له بصناعة وعي، ولا شأن له بصناعة حياة. إنه شاهد خراب وشاهد نسف وشاهد نفي لكل ما ومن يتجرأ على الحياة.

المثقف الذي يقطع صلاته على مستوى شهادته على الجحيم أو الكارثة، هو الدليل إلى الجحيم والكارثة، في الوسط الذي يحيا ويتواجد فيه. هو واحد من المآزق الكبرى التي وجد هذا العالم نفسه محشورا في غائيتها ومصالحها وترتيب بيتها ولو على حساب دمار العالم كل العالم.

بات المثقف المدجج بصمته، قبالة عراء استهداف المخلوقات، درعا للذين لن يتركوا هذه الحياة ومخلوقاتها حرة في الذهاب إلى الجهة والناس والصوت الذي تنتخب والاحتجاج الذي تختار والتمرد الذي تراه آخر ضرورات تعديل نصاب الحياة المختل والمائل.

يتقن مثل ذلك المثقف المدجج بمكره الردئ كل أشكال التصالح والتواؤم مع المرحلة التي يشهد اختلال ما يظن أنه الثابت فيها، والمؤبد في الممارسة. يتقن الهروب إلى الأمام والوراء، لا ليحصن نفسه فحسب؛ بل ليحصن فضل المؤسسة التي أجرته شاهدا لا عين له كي يرى، ولا حس كي يشمئز، ولا سمع كي يصم أذنيه عن تبرير سوق المخلوقات سوقا إلى جحيم أرضي يعده ولي نعمته.

وبات المثقف الذي يحرص على اقتناء آخر سمفونيات الدنيا، ضجرا ومنزعجا من سمفونيات ألم من حوله، وباتت تشكل أظافر وكلابات تقلق جلده الرخو، وتهدد بشرته التي تنعمت من مساحيق المديح والعطايا أو حتى الرضا.

يحرص ذلك المثقف على التأكد من سلامة أطرافه، وإن ذهب عمق محيطه إلى العدم. لا تزعجه الأحذية التي تطأ، ولا الآلة التي تسحق، ولا العار الذي يمتد، ولا الفقد الذي يتطاول.

أن يصحو وقد رتب فصوله ومناخاته وغده الذي يرى؛ وإن صحا الخلق على عدم.

بات مثل ذلك المثقف مشغولا بإحصاء أعداد السياح والإمعان في الدهاليز التي أتقنها، والشرف القابل لإعادة التأهيل، والضمير الذي يتركه في إجازة مفتوحة، ويتمنى عدم عودته. مثل ذلك المثقف يجعل من الفطرة جريمة، ومن الحق تآمرا على الحياة، ومن الباطل أول شاهد للنبل، ومن حدوة حصان مئذنة وشرفا، ومن النفايات حدائق مفتوحة على مخلوقات متوهمة.

مثقف بتلك المواصفات والخزي، يترك العالم عرضة لعرائه؛ فيما يتوهم أنه محصن من عراء.

يقوده مزاج الدهاليز المؤدية إلى "القبض". عرضة هو الآخر إلى الضروس من الاستهداف والتوغل في كهوف لا حصر لها.

يأوي مثل ذلك المثقف إلى سياحة من نوع آخر. سياحة النسيان. نسيان ما يدل على ما رأى وعاين، ولا يريد تذكر رؤيته ومعاينته.

لا يحب النوافذ التي تطل عليه، وتطل على خزيه وصمته وعمر طويل من شهادة الزور. عمر طويل ولو كان بمقياس اللحظة التي يقتنع فيها أنه يؤدي دورا في مصلحة الحياة ودوام حيويتها؛ فيما يذهب بكل طمعه وأمراضه إلى حيويته الخاصة. حيويته المتوهمة. حيوية الجثة التي يحياها!

كأنه ينحاز إلى كل جثة من حوله. ما لا يمنحك روحا هو في ترتيب ومقام الجثة، إن كان للجثة مقام. ينحاز "بوعيه" الذي يستهدف كل رجرجة للتساؤل والاحتجاج والإمعان في التمسك بقيمة الحق.

لن يستطيع مثل ذلك المثقف إقناع جثة ملقاة على الطريق بأنه أحد العابرين الذين اكترثوا بها وقرأوا عليها فاتحة تليق بهيئتها وهيئة المكان الذي وجدت فيه؛ وعليه بعدها أن يهيء نصه لإقناع مخلوقات تضج بالحيوية بأنه واحد ممن ينتسبون إلى الأرواح والحس.

مثقفون كأولئك، يستهترون بالحياة وما يرتبط بها، ولا يهمهم ما يؤدي إليه مثل ذلك الاستهتار؛ ماداموا ممعنين في الذهاب إلى نسيانهم بانفصال وانفصام بالغين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق