الاثنين، 27 أبريل 2009

رسائل




في الصعود
إلى الجحيم رضا،
ضرب من إرغام الواقع على رفع وصايته..
***

تتسلل إلى يومي كقطرة ندى تسقط في كأس مسكونة بالماء ..
تلتحم بكل ذراته حتى تغدو كلاًّ ومحتوى ..
أي حضور هذا الذي يغالب كلي فيغلبه؟!
***

أسررت إليك ذات تسكع بخوفي من نزول المرتفعات،
لكنك لم تنتبه بعد أنك قمة حين أنزل منها
قد أموت خوفا ..
لا تدعني أهطل من وقتك
كي لا انتهي لقاع ..
***

الحدائق تجمع الزهر والعشب والتناقضات
بعض العشب يتطفل - كي يعيش –
على جمال نبات أضني ليحافظ على بقائه قيد النضارة ..
أيدينا تتطفل فتقطف وردة قابعة في أمان لا ذنب لها سوى جمالها
هكذا هي ذاكرتها:
أحداث تتطفل على أحداث
وأشخاص يقطفون أشخاصا.
***


قد يسقط الزهر من غصنه فيتناثر ..
لكنه لن يكسر غصنه أبدا ..
هكذا قلبي: زهرة لم تعتد كسر أغصانها
هكذا أنت:
غصن لم يحمل الشوك ولم يحتمل جنوني..

داء مزمن



هل يفهم الرقيب على النشر يا ترى في أية دولة مغزى أو معاني بعض كلمات الكتب التي يمنعها من التداول ؟
وإذا ما أردت أن أكون أكثر إنصافا ولا أسوق التهم " للعالمين " منهم، عليّ أن أعيد صياغة هذا السؤال ليصبح: هل يعرف الرقيب السبب الحقيقي وراء منعه لهذا الكتاب أو ذاك بعد أن يقرأ ويفهم كل الكتب التي تمر أو تنسف من تحت ختمه؟ فيعطي ذاك صكا بالأمان وهذا صكا بالحرمان؟
هل يعرف الهدف وراء هذا الإصدار وذاك، فيقوم بمنع أهداف الكتاب السامية أقصد " السامة" من النشر والبيع، خصوصا حين يكون الكتاب فكريا أو أدبيا أو فنيا ؟
وإذا ما أصدر "فرمانه " بالمنع، هل يعي تبعات منع هذا الفكر أو ذاك الأدب من التداول؟
والسؤال الأهم: هل ينكر معرفته أن ما منعه سيبقى متداولا أمام عينيه حين لا يكون جالسا على كرسيه المتعسف، المزاجي؟ وربما يكون أول من يأخذ منه نسخة وأول من يهدي أحدهم نسخته؟
ما يقودني إلى مثل تلك الأسئلة الكتب الأدبية الكثيرة التي منعت وما زالت قائمتها متواصلة في بعض الدول وفي المملكة العربية السعودية على وجه الخصوص والتي كان آخرها رواية الكاتب البحريني خالد البسام "لا يوجد مصور في عنيزة" التي كانت تباع في جناح المؤسسة العربية للدراسات والنشر في معرض الكتاب بالرياض حال صدورها أقيم له حفل توقيع في ذات المعرض وبيع منها وانتشر هناك تحديدا ما يجعل الطبعة الأولى على وشك النفاذ؟
إضافة إلى ديوان الشاعر السعودي "جنيات شومان" الصادر عن دار فراديس للنشر والتوزيع قبل عام تقريبا والتي صودرت نسخه التي حاولت عبور الجسر جميعها، فضلا عن ديوان الشاعر السعودي محمد الفوز " ليل القرامطة " الذي كان اسمه سبب منعه الوحيد في نفس المملكة، والقائمة تطول جدا إذا ما أردنا حصر الكتب التي تمنع هنا وهناك!!
المضحك المبكي أن المواقع الأدبية ومواقع بيع الكتب عبر الإنترنيت تتيح لمثل هذه الكتب مساحة واسعة من الانتشار والتداول حتى داخل الدول " المانعة" والتي غالبا ما تكون مواطن الكتاب أولي الكتب الممنوعة، وما إن يمنع كتاب ما من البيع في إحدى الدول حتى يرتفع رصيده من الشراء عبر هذه المواقع وغيرها من المصادر، وكل رقيب يعرف بهذا جيدا، ويعرف تماما أن منعه لهذا الكتاب أو ذاك سيسهم في انتشاره كانتشار النار في الهشيم.

وهنا لابد لي أن أتساءل: لم تتهم الكتب الأدبية والشعرية دائما بكونها خارجة عما تتيحه الرقابة، وكلما قام كاتب أو شاعر ما بكتابة مشاعر وخيال ووجه بالتشهير والقذف وبمنع كتبه أو حرقها كما حدث مع الشاعر كريم رضي في إحدى الدول حين أحرق ديوانه "أحاديث صفية " ؟

الاثنين، 30 مارس 2009

العاشرة إلا وجها




لأن الساعة الآن تشير إلى التاسعة والنصف صباحا، تجدين نفسك تتقلبين بين هذه الوجوه وتلك الأحرف، بحثا عن وجه اقترف صاحبه الرحيل في هذا اليوم - المعنون بيوم مولدك- مع سبق النصر والتمرد..
تتآلف عند بطانيات سريرك البنفسجية خيوط الشمس معلنة انكسار الضوء من تلك النافذة التي لم تعلها إلا قطرات مطر تناثر البارحة مع ذرات غبار تجمع قبل هذا الوقت بقليل، لتمحو صورته التي طالما هطلت على عينيك في مثل هذا الوقت لتربت على جرحك وتتمتم: صباح البعد..
خيوط الضوء تنكسر كما الأحاسيس التي تجول في خاطرك،
القلب ينكسر،
الحب ينكسر،
الظهر ينكسر..
وكل شيء إلى انكسار عدا الذاكرة المثقلة بالحنين..

تنظرين إلى المرآة التي تطل بخجل من ذاك الجدار، ترتبين شعرك بأصابعك تماما كما كان يحب: خصلاته الطويلة تتدلى على جانبي وجهك حتى تكاد تغطي ربعيه..
لكنك هذه المرة تضيفين ما لا يحب: دبوسا فضيا رسمت على طرفه بنفسجة، يرفع ما انسدل في النصف من خصلات لتكوني امرأة أخرى في حضرة غيابه/ صمته المضني..
المرأة التي تطل بعض ملامحها من تلك المرآة ليست أنت تماما، بدت أكثر نحولا وقلقا، بدت وكأن عمرها الربيعي ارتمى فجأة من بين سنينها، ليحط على راحتيه فيزيده بريقا لئلا يشعر بالفارق الكبير في السن، والشبه المترع في الانكسار.
الانكسار مرة أخرى يزور هذه الكلمات، لكنه هنا ليس ضيفا بل صاحب قلب..
هذا الانكسار الذي أوجد فخُلَّد، وتمادى فتماهى في وجعه الفؤاد..
يهبك مزيدا من الثرثرة فتهبينه مزيدا من الصمت،
ثرثرة ؟ كيف تثرثرين وأنت مسجونة بين جدران ذاكرة تتفنن في اصطياد تأوهاتك وتلحنها شغفا ودمعا؟
تنتبهين لشفتيك الجافتين فتصمتين، بينما الوقت ينقضي ذبيحا بين دقات ساعة خلعها معصمك البارحة،
تبحثين عن متسع من الجرح وقليل من الهذيان
والوجه لا يجيء..
الوجه لا يرتب ملامحه التي مسختها مساحيق التعتيم وشكلتها ألوان المسافة..
إلجئي لسريرك يقص عليك أحلامه، فتقدينها من صحوة كلما تعنى على يوسفك تأويلها..
الوجه لن يعود!

الأحد، 22 مارس 2009

أنا وأنت والمطر..




المطر يشبهه جدا في تناقضه: حنون حين يهطل برفق،
وقاسٍ حينما لا يكترث لتلك البيوتات الطينية الصغيرة
التي بالكاد تفقه معنى الصمود أمام العنف.
***
البرق يشبه حنانه الذي يأتي فيملأ نفسي نورا لكنه يختفي فجأة،
محدثا قلقا وارتعاشة خوف مما قد يحدث لي إثر ظلام رحيله.
***
الشمس تشبهه كلما أضاءت نهارات الجميع، ورحلت مساءً
مخلفة ظلاما لا ينتظره من لا يملكون الكهرباء..
هي سيدة الضياع مساءً، وهو سيد الموت في كل نهار..
***
النار شقيقة روحه،،
لم يطلني دفؤها سوى مساءات نادرة،
بينما سواد دخانها يضمخ قلبي كلما حاولت التنفس..
دفؤها لهن، ولهبها منذور لي..
***
لكن البحر لا يشبهه ولن يفعل !
***
ما عاد للروح سوى الهذيان وما عادت الأسئلة تقتفي أثره،
كان سيدا مضمخا بالوهج مفتونا بالصبابة،
وما هو الآن سوى إكليل أضعه على تابوت أحلام بددها سخف انتظاري
هل هو الذي كان يداعب أحلامي بقصيدة لا تذبل؟
هل هو ذاك الذي لم تأخذ قلبه سنة ولا نوم ؟
الآن كل كائنات الطبيعة تشبهك إلاه!
**
ها هو يخضعني للصمت وأخضعه للتغافل عن الصواب،
نتعارك كما عدوين في ساحة انتقام،
ولا يجبر كسرنا إلا حضن لن يجيء ولو بعد موت.

الاثنين، 23 فبراير 2009

فضاءات النص العربي والرعشة المفقودة

يبدو زنزانة ذلك الفضاء المشار إليه في عنوان هذه الكتابة.

زنزانة وإن بدت بنافذة تطل على فضاء الآخر. وهو بهذا المعنى مرتهن لمساحته وللقيود المفروضة على تلك المساحة.

النص الذي لا يربك الفضاء من حوله، ولا يحدث تأثيرا ذا بالٍ ومعنى، لا يعدو كونه ثرثرة لا قول فيها ولا معنى لذلك القول. ينتبه الواحد منا على هذا الركام من " القول " ولكنه يصعق لندرة الفعل في ذلك القول وحجمه.

أعتمد في فهمي للنصوص من حولي على التأثير والتغيير الذين تحدثهما فيّ وفيما حولي، بغض النظر عن حجمهما. تأثير وتغيير ولو بحجم رعشة تنتاب الواحد منا كلما بدا له أنه انتهى من قراءة النص. مثل تلك الرعشة تتيح لك حالا من التمييز، بين كتابة تأخذك إلى الأنفاق المظلمة حيث الارتطام بالأشياء وبين كتابة تأخذك إلى " متاهات الهدى " أو " هدى المتاهات" لا فرق.

مثل تلك الرعشة التي يتركها النص فور الانتهاء منه هي بمثابة الإضاءة والإضافة. الإضاءة لعتمتك والإضافة إلى نقصانك وعرائك وتيهك الذي كثيرا ما يلوح لك من دون جدوى.

في الفضاء المفقود في النص العربي تتبدى لك غابات من القيود، وحزم من الإكراهات، وقائمة طويلة من الإرغام ووصفات جاهزة مما يراد لك قوله وقراءته وحتى رؤيته. فيما على الجهة الأخرى من فضاءات النصوص تتبدى لك تناسلات لتلك الفضاءات وحزم من الخيارات وقائمة لا نهائية من الاختيارات ووصفات عفوية وبديهية مما لك الخيار في رفضه عدا قبوله.

مثل تلك الرعشة التي يتركها النص حال الانتهاء من قراءته هي بمثابة الروح المفقودة. الروح المغيبة تطلع عليك لتضيف إلى روحك روحا وإلى معناك معنى وإلى جدوى وجودك جدوى وجود يتم تعميقه كلما تناسلت تلك النصوص بفضاءاتها ورعشاتها.

الثلاثاء، 17 فبراير 2009

الكتابة طريق إلى الحياة

الكتابة جنة المثقلين بخطاياهم
هي الفعل الذي لا يبدأ لينتهي،
ولو انتهى فإنه ينتهي ليبدأ.
***
في ظاهر الكتابة صوت آخر يهديك للموت،
بينما باطنها طريق لحياة لا موت بعدها.
***
ثمة منشغلون بالحرف يسألون أقلامهم:
كيف نكتب والمقاصل لا تزال تشير إلى رقاب الموبوئين بالكتابة ؟
فيما أقلامهم تتهمهم بالخيانة وتتنكر لهم.
***
أن تكتب بصوتك، فذلك ضرب من الجنون،
وأن يصمت حرفك فتلك جريمة ومجون.
كلما أردت الحياة: اشحذ قلمك واسمع صريره على البياض؛
لتنبض الأحبار وتحيي جذور الصوت.
***
في الكتابة ضوء لا يشع إلا بالجهر بها،
كأنها النور المخفي وراء صخرة الكهف.
***
الكتابة امتحان النفس أمام الصمود،
واحة مشرعة للثقة،
سخية، تهبك أرواحا ورياحين، كلما أريد بها إعمار.
تنتهب فضاءك،
وتهندس الأفئدة بأعمدة ماثلة للدمار،
تتقمص وجوها مختلفة،
لا تعترف بوجهك أو وجهتك، كلما أريد بها خراب.
***
اختر أي الكتابة تمتهن:
كتابة للموت، أو كتابة للحياة،
فكلتاهما ضرب من الهذيان.

الثلاثاء، 10 فبراير 2009

الملاذ: جنة أخرى




الشيخوخة تبدأ
حين يبدأ القلب في غيبوبته،
يفقد العالم براءته
كلما ازدادت الفخاخ
***

كلما كثرت أحلامك
انتفض واقعك
***
المعرفة:
هي حدود قدرتك على السفر
***

اتركوا المجانين
يعيدون تأسيس وعي العالم
***

اذهبوا في الامتحان
وارجعوا بالأسئلة
***

لا يغرنكم الضوء
ثمة عتمة متأصلة فيه
لا ترهبنكم العتمة
ثمة أنهار من الضوء فيها
***

يأتون محملين بالهدايا
لكن القلوب مسننة كالخناجر
***

لا شيء أكثر قدرة على البقاء
مثل نجوى قلبين ساهرين
فيما العالم يغط في نومه
***

يقرءون بعيون كأنها الممحاة
***
يدلفون إلى النوم
كما يدلف الراعي إلى المروج
***
يحصي أعداءه قلبا قلبا
يحصي أصدقاءه غدرا غدرا
***
امتحن أصدقاءك بالكراهية
***

ثمة دول تدخل الأمل
مادة إجبارية في مناهجها
على رغم اليأس الماثل كالركام
***

إطفاء الحريق ليس موهبة
تفاديه هو الموهبة
***
الأحذية: وجه آخر للبيان السياسي
الفخاخ: اغتيال آخر
الصمت: كلام أنيق
الهمس: سر معلن
الكآبة: رماد مطلق
النص: هواية الأحلام والكوابيس
الملاذ: جنة أخرى.

الأحد، 25 يناير 2009

عبثا نحاول..




النسيان ترياق لا يجيء عندما ننشده،
بينما هو الأول حضورا حينما لا نشعر برغبتنا به..
نحن في المهب تأخذنا نيران الكلمات إلى حيث الذاكرة
نغامر كي ننسى ولا تسعفنا الأماكن، فنجد في الروح متسعا للتذكر..
***


الأماكن تأخذنا إلى من لا نريد تذكرهم، كلما مررنا بها،
والشوارع لا تتذكر سوى "استيقاظة من حضن علني"
غررت بالوقت - ذات تسكع - فانتبه..
ليعلن أن الوصل قد أفل..
***


بين طبقات القرب "العليا والأرضية"،
اتشحت الأرواح بتألق لم يُلْحَظ قبل أوان الرحيل
هناك في الزاوية الأخيرة:
كانت قطرات الشراب تخجل من الكأس الفارعة في الدفء
كلما حملتها نداها باردا..
***
كل الأحلام ترتجيهم، والواقع دونهم مس من وله
هم البياض الذي ارتسم قرب الموج حضنا ذات شتاء
هم الغربة التي باتت وهما ذات حقيقة..
***
كلما نهض الورد من حروفهم، تناثرت الذكرى أدمعا..
هل تنتهي هذي الحكاية وينتصر النسيان؟
***
النسيان قد يجيء ولكن عندما نصبح خبرا لكان..
هو الأخير في الأذهان عندما يلف الكفن
والأول عندما يوضع شاهد القبر..

الاثنين، 19 يناير 2009

انتماء أم تماهٍ




هل للجماعة أنا فردية ؟
هل يستطيع كل منا أن يكون أناه بكامل عبثيتها ونزقها وجنونها وتطرفها وعقلها في كل وقت؟
لو كنّا نصرح بالإجابة لاختلف الأمر من الجذور!
***

الجماعة هنا ليست بالضرورة جماعة دينية، أعنيها هنا جماعة إنسانية بالدرجة الأولى، وقد تسعى لتحويل سلوكها فيما بعد إلى سلوك ديني يتبنى أيديولوجيا شرعية قد لا تمت لشرع أصل ذاك الدين بصلة، لكنها تفرض على جميع أفرادها العمل وفق تلك الأيديولوجيا وتلك التشريعات المستحدثة والموضوعة.
***

عندما تكون: (أنت)، وسط جماعة لا تريد منك إلا أن تكون (هي)، لابد وأن تتكالب عليك اللعنات ويشرع المسئولون في تلك الجماعة بسلِّ جميع التدابير المشروعة وغير المشروعة من أجل سنِّ قوانين وفتاوى عرفية لتهميشك واستلاب حقوقك بل وأحيانا لوصفك بالخارج منها عليها..
***

إن كنت تنتمي لجماعة ما لأن ذويك انتموا إليها من قبلك، فذلك يعني أن تقبل جل ممارساتها بالضرورة وأن تظهر استحسانك ورضاك عن كل ما ترتبه وتحوكه وتؤديه، فإن أنت أظهرت إعجابك بممارسة أدتها جماعة أخرى – ليست بالضرورة منافسة – تكون قد خسرت حياة هانئة وسط جماعتك!
فما الذي يمنع من تشريع سنن تقضي بأن يكون الفرد (هو) في كل حالاته وقتما شاء، وأنى أراد؟
بل لِمَ نحتاج إلى تلك السنن ما دمنا بشرا نفكر ونختلف دون أن نسعى لمس دين أو قانون إلهي بسوء؟
***

هل يعني الانتماء تماهي المنتمي مع/ في الآخر المنتمى إليه؟
إن كان الجواب نعم، فلِمَ أسميناه انتماء ولم نكتفِ بتسميته تماهٍ؟
أمن أجل زيادة رصيد العربية كلمة؟ أم لنفتح باب التأويل ونضيف إلى تخريجات رؤوس الجماعات تخريجا جديدا من أجل عقوبة ما؟
وإن كان الجواب لا، الانتماء ليس بالضرورة تماهٍ مع وفي الآخر، فلم تُفْرَض كل هذه العقوبات وهذه السنن من أجل الوصول إلى هذا التماهي؟

عمتي والودعة

إمرأة عراقية ترتدي ثوبا أسودا، وعصابة رأس سوداء، الظاهر من جسدها مليء بالوشم فجبهتها وذقنها وحواجبها وكفيها وقدميها تزينهم رسوم خضراء عرفتُ فيما بعد أنها تدعى وشما.اعتدنا أن نراها معنا فردا من أفراد الأسرة كل شهرين لتجلس معنا شهرين آخرين إذ كانت تتنقل بين بيتنا وبيت خالي، فهي عمة أمي وخالي بالطبع.في صندوقها الحديدي الرمادي الذي كان مقفلا في أغلب الأوقات كانت أدواتها التي ما كنا نجرؤ على لمسها لا في غيابها ولا في حضورها، أذكر منها صرة بها العديد من الأصداف والمحار بمختلف المقاسات والأشكال، أسمتها: الودعة....
في كثير من الأيام كنت أرى نساءً يخرجن من منزلنا وهنّ في غاية الفرح حيث كنّ يعرفن شيئا من مستقبلهنّ من عمتي..!!جلستُ عندما كنت في الثانية عشر معهن ذات مرة، كانت السائلة إمرأة لم يكتب الله لها أن تنجب، وبصوتها المرتفع قالت العمة:إرمي بياضك..!فإذا بتلك المرأة تلقي ب 200 فلس وسط تلك الأصداف والقواقع، فبدأت العمة بالعمل..كانت ترفع صدفة وتضع الأخرى وعلى وجهها علامات عديدة فمرة تقطب جبينها وأخرى تبتسم ومرة تبدو عليها علامات الدهشة وهي تحسب وتحسب وتحرك يديها بحركات وكأنها تريد أن تشرح لأحدهم ما تقول، لم أسمع شيئا مما كانت تقول فكان الأهم لدي أن أرقب تحركاتها التي بدت غريبة علي بعض الشيء، لكنني وجدت المرأة خرجت وهي متهللة الأسارير، فرحة بما سمعت.
دنوت منها وسألتها أن تقرأ طالعي فسألتني عن بياضي، وعندما وجدت أختي علامات عدم الفهم علي ألقت بمائة فلس وسط الأصداف، فعلمت أن البياض يعني هنا مبلغا من المال.. سألتها قبل أن تبدأ عن سبب هذا "البياض" ، فأجابتني بشيء من الجدية: إنه للمعرفة، من دونه لا يأتيني العلم فأنا استخدمه أثناء " فك الفال"، وبدأت بنثر الأصداف مع " بياضي" من تلك السلة التي وضعتهم بها مسبقا بعد أن قامت بهزها، رأيت الأشكال – ولا زلت أتذكرها وكأنها كانت أمسا- صدفتين وحيدتين بعيدتين والبقية كانت متجمعة في شكل معين أما بياضي فقد كان تحت إحدى القوقع وقد بان منه نصفه.. وبدأت الحديث:أمامك مستقبل واعد، فهذه هي العمارة التي ستسكنين بها مع زوجك وأبنائك في المستقبل ثم ستنتقلين إلى ذلك المنزل ( وقد كانت تلك هي أكبر الأصداف)، وبعد نقطتين( مشيرة إلى الصدفتين البعيدتين) سيأتيك خبر مهم وسعيد تتغير معه حياتك نحو الأفضل...وعندما سألتها عن النقطتين قالت لي بأنهما قد يكونا يومين أو اسبوعين أو شهرين أو عامين...هذا ما أتذكره من ذلك الحديث الذي كان طويال في الواقع ولكن ما أذكره هو دهشتي بعد يومين إذ جاءني خبر موت إحدى المدرسات اللاتي درسنني في الابتدائية، ولم يأتِ ذلك الخبر السعيد، فتزعزعت بعض من تلك المصداقية لهذه الودعة في نظري!!مع العلم بأن شيئا مما قالته لم يحدث حتى اليوم رغم أنني كنت أصدق كل ما تقول، وأتضايق حين كانت أخواتي وأمي يضحكن تارة ويشحن بوجههن تارة أخرى فتشتاط عمتي غيضا منهن.
ما أتذكره تماما هو أننا كنا نستمتع بهذا الطقس ونجد فيه متنفسا ينسينا زحمة الدراسة ومشاغلها، وكنا نتحلق حولها في كل مرة طالبين منها أن تقرأ لنا الطالع مرة بالودعة ومرة بالكبريت..!!نعم الكبريت حيث كانت تقوم بفتح علبة الكبريت وتأخذ مجموعة من الأعواد بشكل عشوائي وترسم منها مربعات فإن تبقى عددا زوجيا تكون "الخيرة" جيدة ونقوم بما عزمنا عليه، وإن تبقى عدد فردي فهي سيئة ويجب ألا نقوم بما ننوي – ولكن من يسمع- !!
لقد ارتبطت في مخيلتي صورة العرافة بصورة عمتي بسواد ثيابها وصوتها المرتفع وطيبتها الرائعة.
كانت في كل مرة تزورنا نجلس معا في حلقات لنستمع إلى أساطيرها وقصصها الجميلة التي أشعلت في مخيلاتنا العديد من الصور والخرافات، إضافة لأحاديها حول الكرامات التي كانت تحدث لجدي الأكبر في العراق إذ كان شيخ دين من كبار الشيوخ وأغزرهم علما في قبيلتهم – على حد قولها – ولا زلت أتذكر قصة الزيت الذي تحول مرا عندما سرقه بعض الفقراء من وعائهم ليلا بعد أن تذوقوه وأعجبهم في بيت جدي، لكنهم عندما أرادوا أكله مع الرز كان شديد المرورة فأعادوا ما تبقى لكنه لم يضعه في الوعاء بل طلب الرز ووضعه عليه ليأكلوه ويجدوه لذيذا كما كان..!!
هذه الحكاية وغيرها من الحكايات كانت أساس جلساتنا مع هذه العمة التي كنت أعتبرها كنزا في لهجتها العراقية الي أحب، وقدرتها على نظم الشعر العامي ارتجالاً حتى فكرت في تسجيلها وجمع ما تقول، ولكن القدر حال دون ذلك إذ كانت كبيرة في السن توفيت ونحن خارج البلاد في صيف قاسٍ.