الاثنين، 19 يناير 2009

عمتي والودعة

إمرأة عراقية ترتدي ثوبا أسودا، وعصابة رأس سوداء، الظاهر من جسدها مليء بالوشم فجبهتها وذقنها وحواجبها وكفيها وقدميها تزينهم رسوم خضراء عرفتُ فيما بعد أنها تدعى وشما.اعتدنا أن نراها معنا فردا من أفراد الأسرة كل شهرين لتجلس معنا شهرين آخرين إذ كانت تتنقل بين بيتنا وبيت خالي، فهي عمة أمي وخالي بالطبع.في صندوقها الحديدي الرمادي الذي كان مقفلا في أغلب الأوقات كانت أدواتها التي ما كنا نجرؤ على لمسها لا في غيابها ولا في حضورها، أذكر منها صرة بها العديد من الأصداف والمحار بمختلف المقاسات والأشكال، أسمتها: الودعة....
في كثير من الأيام كنت أرى نساءً يخرجن من منزلنا وهنّ في غاية الفرح حيث كنّ يعرفن شيئا من مستقبلهنّ من عمتي..!!جلستُ عندما كنت في الثانية عشر معهن ذات مرة، كانت السائلة إمرأة لم يكتب الله لها أن تنجب، وبصوتها المرتفع قالت العمة:إرمي بياضك..!فإذا بتلك المرأة تلقي ب 200 فلس وسط تلك الأصداف والقواقع، فبدأت العمة بالعمل..كانت ترفع صدفة وتضع الأخرى وعلى وجهها علامات عديدة فمرة تقطب جبينها وأخرى تبتسم ومرة تبدو عليها علامات الدهشة وهي تحسب وتحسب وتحرك يديها بحركات وكأنها تريد أن تشرح لأحدهم ما تقول، لم أسمع شيئا مما كانت تقول فكان الأهم لدي أن أرقب تحركاتها التي بدت غريبة علي بعض الشيء، لكنني وجدت المرأة خرجت وهي متهللة الأسارير، فرحة بما سمعت.
دنوت منها وسألتها أن تقرأ طالعي فسألتني عن بياضي، وعندما وجدت أختي علامات عدم الفهم علي ألقت بمائة فلس وسط الأصداف، فعلمت أن البياض يعني هنا مبلغا من المال.. سألتها قبل أن تبدأ عن سبب هذا "البياض" ، فأجابتني بشيء من الجدية: إنه للمعرفة، من دونه لا يأتيني العلم فأنا استخدمه أثناء " فك الفال"، وبدأت بنثر الأصداف مع " بياضي" من تلك السلة التي وضعتهم بها مسبقا بعد أن قامت بهزها، رأيت الأشكال – ولا زلت أتذكرها وكأنها كانت أمسا- صدفتين وحيدتين بعيدتين والبقية كانت متجمعة في شكل معين أما بياضي فقد كان تحت إحدى القوقع وقد بان منه نصفه.. وبدأت الحديث:أمامك مستقبل واعد، فهذه هي العمارة التي ستسكنين بها مع زوجك وأبنائك في المستقبل ثم ستنتقلين إلى ذلك المنزل ( وقد كانت تلك هي أكبر الأصداف)، وبعد نقطتين( مشيرة إلى الصدفتين البعيدتين) سيأتيك خبر مهم وسعيد تتغير معه حياتك نحو الأفضل...وعندما سألتها عن النقطتين قالت لي بأنهما قد يكونا يومين أو اسبوعين أو شهرين أو عامين...هذا ما أتذكره من ذلك الحديث الذي كان طويال في الواقع ولكن ما أذكره هو دهشتي بعد يومين إذ جاءني خبر موت إحدى المدرسات اللاتي درسنني في الابتدائية، ولم يأتِ ذلك الخبر السعيد، فتزعزعت بعض من تلك المصداقية لهذه الودعة في نظري!!مع العلم بأن شيئا مما قالته لم يحدث حتى اليوم رغم أنني كنت أصدق كل ما تقول، وأتضايق حين كانت أخواتي وأمي يضحكن تارة ويشحن بوجههن تارة أخرى فتشتاط عمتي غيضا منهن.
ما أتذكره تماما هو أننا كنا نستمتع بهذا الطقس ونجد فيه متنفسا ينسينا زحمة الدراسة ومشاغلها، وكنا نتحلق حولها في كل مرة طالبين منها أن تقرأ لنا الطالع مرة بالودعة ومرة بالكبريت..!!نعم الكبريت حيث كانت تقوم بفتح علبة الكبريت وتأخذ مجموعة من الأعواد بشكل عشوائي وترسم منها مربعات فإن تبقى عددا زوجيا تكون "الخيرة" جيدة ونقوم بما عزمنا عليه، وإن تبقى عدد فردي فهي سيئة ويجب ألا نقوم بما ننوي – ولكن من يسمع- !!
لقد ارتبطت في مخيلتي صورة العرافة بصورة عمتي بسواد ثيابها وصوتها المرتفع وطيبتها الرائعة.
كانت في كل مرة تزورنا نجلس معا في حلقات لنستمع إلى أساطيرها وقصصها الجميلة التي أشعلت في مخيلاتنا العديد من الصور والخرافات، إضافة لأحاديها حول الكرامات التي كانت تحدث لجدي الأكبر في العراق إذ كان شيخ دين من كبار الشيوخ وأغزرهم علما في قبيلتهم – على حد قولها – ولا زلت أتذكر قصة الزيت الذي تحول مرا عندما سرقه بعض الفقراء من وعائهم ليلا بعد أن تذوقوه وأعجبهم في بيت جدي، لكنهم عندما أرادوا أكله مع الرز كان شديد المرورة فأعادوا ما تبقى لكنه لم يضعه في الوعاء بل طلب الرز ووضعه عليه ليأكلوه ويجدوه لذيذا كما كان..!!
هذه الحكاية وغيرها من الحكايات كانت أساس جلساتنا مع هذه العمة التي كنت أعتبرها كنزا في لهجتها العراقية الي أحب، وقدرتها على نظم الشعر العامي ارتجالاً حتى فكرت في تسجيلها وجمع ما تقول، ولكن القدر حال دون ذلك إذ كانت كبيرة في السن توفيت ونحن خارج البلاد في صيف قاسٍ.

هناك 3 تعليقات:

  1. مراااحب
    اتذكر عمتك الله يرحمها عندما كنا صغار نحب وننتظر مجيئها الى منزلكم انسانة رائعة وقوية في يوم تناديني بأسمي واليوم الثاني تغير اسمي وهكذا الحال مع العمة تنسى اسامينا دوما ... عندما اذكر طفولتنا وتجمعنا في منزلكم اتذكر ايضا الشهرين التي تقضيهم في المنزل ووقت الاذان عندما تقول اذهبو الى بيوتكم اذهبو وصلو كنا نضحك ونضحك ..كلنا حزنا على رحيلها وهي باقية في الذاكرة
    أميـــرة

    ردحذف
  2. ذكرتني بشقارة الطفولة يا أميرة ،،
    وهل تذكرين عندما ثقل سمعها بعدما تقدم بها العمر، كيف أننا كنا نخبرها بوقت الأذان خطأ حتى إن شرعت في الصلاة أخبرناها أننا كنا نكذب فتهرع خلفنا كما لو كانت شابة ؟
    هي ذكريات لا تنسى ..

    ردحذف
  3. ضحكت جدا على ذكرياتكي يا سوسنة مع عمتكي هذه ومع صديقتكي اميرة
    تمنيت انني اعرفكي حتى تقرا لي عمتكي الفال لاني مؤمنة بهذه الامور وتهمني كثيرا كثيرا واصدق ما يقولونه لي .
    مدونتكي جميلة
    شكرا لكي
    ريم

    ردحذف