سوسن دهنيم
في "وكان عرشه على الماء"
صابــر الحبــــاشة
ناقد وباحث من تونس
يقع الشعر الحديث في مآزق التأويل ويوقع قارئه في مآزق التحليل، حيث إنّ التأويل هو إيجاد معنى كلي للنص أمّا التحليل فهو إيجاد المعاني الجزئية التي تنتظم النص في مختلف فقراته وأجزائه. ومن هذه المآزق ما يمكن تفصيله في ترتيب الأفكار والمعاني وفق منطق ما. لا نعني أننا نُلزم الشاعر بمنطق مسبق خارج عن منطق داخلي يختاره الشاعر، ولكن نقصد أن يكون الشاعر وفيا بمنطق يُلزم به نفسه ويلتزم به.
وللكلمات مكرها. فمنها ما يُدير ظهره للشاعر بعد أن ألجأ نفسه إلى جلبها من سياقات بعيدة. من ذلك العناوين التي تسجن النص في بوتقة لا تجعله ينفكّ عنها ولا تنفكّ عنه.
فانطلاقا من العنوان يختار الشاعر أجواءه الشعرية وعوالمه التخييلية التي يريد أن ينمّيها طوال نصّه. ولكن ليس الأمر على هذه الشاكلة في كل التجارب. فقد يفشل الشاعر في تبويب نصه وترتيبه، بشكل يجعله يتجاوز التناقض بين المنطوق والمقصود.
ففي بداية القول الشعري يحتاج القائل إلى تعويد «عائلة الكلمات» التي يعتمدها في النص على الرضوخ لخارطة طريق فنية متكاملة الدلالات... ولا يعني هذا الإجراء الوقوع في الصنعة وغياب العفوية، أو أن تكون القصيدة مجعولة في «بنية» هندسية مضبوطة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولا أن تُلغى الفوضى الإبداعية الخلاقة المقصودة أحيانا.
سؤال المعنى يبقى مطلا برأسه علينا من بين أسئلة كثيرة تطرحها نصوص شعر النثر... هل يجب أن نستغني عن «طمعنا» في الحصول على مُسكة من معنى، بعد أن كانت «المعاني مطروحة في الطريق» – كما يقول الجاحظ، وبعد أن كان «المعنى يسلمنا إلى معنى المعنى» – كما يرى الجرجاني؟
ها نحن إذن إزاء قانون إلغاء المعنى وكأنّ نظرية البيان يجب أن تلفظ أنفاسها، أو أن تلقي بجميع محتوياتها في النهر لتغتسل من حوبة المعنى.
هانحن إذن إزاء نصوص تدّعي الكونية بانغلاقها على صور غير معهودة واعتمادها منطقا غير مألوف.
قد تكون هذه المقدمة صالحة لكل قراءة في الشعر الحديث، هذا صحيح ولكن كيف يمكن تنزيلها على «دُوَيْوِين» (تصغير ديوان) سوسن دهنيم «وكان عرشه على الماء...» الصادر في طبعته الأولى سنة2008، في 131 صفحة، عن وزارة الإعلام بالبحرين؟
منذ المنطلق يجب أن أشير إلى أنّ العنوان المستمدّ من عبارة قرآنية، لا يمكن إلا أن يأسر القارئ، قبل أن ينتقل إلى المتن يجد المتقبل الكتابَ قد أُحسن إخراجه فنيا وجماليا، من حسن انتقاء للعنوان ومن لوحة على الغلاف معبّرة أنشأها المبدع متعدد المواهب فريد رمضان ومن إخراج فنّي اضطلع به حسين فخر. فضلا عن النصوص المصاحبة من قولة للنفري «غششتك إن دللتك على سواي» وإهداء «مريم دهنيم... ملاك تجسّد بشرا.. ألهذا تحبو إليك الكلمات؟»، فضلا عن تفريعات العناوين وما تتسم به من عذوبة وتواصل «في سيرة أصل الماء» و«في سيرة أصل العشق» و«سيرة العرش».
ولكن تبقى هذه الإجراءات الفنية والنصوص المصاحبة مجرد علامات توحي بأهمية المتن وبقيمة النصوص التي احتاجت الشاعرة لكي تدلّل على أهميتها بأن اتخذت هذه المقدمات والمكمّلات الفنية لتعبّر عنها. فهل كانت نصوص المتن مستحقّة لهذه المتعالقات النصية؟ أم إنّ المصاحِبات النصّية سبيل لتداريَ وهنا في المتن وهشاشة في قلب الديوان؟
يعسر أن نجيب بطريقة حدّية عن هذا السؤال الشائك، ونرى أنه من الأولى تحليل بعض النماذج من الديوان للوقوف على مدى تجاوب هذه النماذج مع روح الشعر.
إذا انطلقنا من النصّ الأول:
تكوين(1)
كان فيما مضى../ يجلس متكئا على عرشه، ذات حزن،/ يَشْرَق بوحدته دون وردةٍ/ تخضّب مساءاته بالعبق/ خلقها وانتظر الشوقَ يتأجّج في الخلايا،/ شقَّ من شريانه نهْرًا أسرته الأنوثة، خلدته عينان تتثاءبان في ولَه/ كان كـ«نرسيس»،/ شامخا بصمته/ يتداعى../ كلما ضنَّ عليه الليل بطيف../ ولا سبيل للشوق في خلايا آيته.(ص9و10)
تحليل النصّ
يتبيّن منذ السطر الثاني تجاوُب صريح بين عنوان الديوان وبين هذا النص الأول، من خلال ورود كلمة «عرشه» ويظهر تجاوب ضمني بين العنوان والنصّ الأول أيضا، من خلال ورود كلمة «نهر» في السطر السادس، ولا تخفى العلاقة بين هذه الكلمة وبين كلمة «الماء» الواردة في العنوان.
فالماء كلمة عامّة جدا وهي من أكثر الكلمات اشتراكا في الدلالة، فالماء موجود بغزارة في الواقع، في أشكال مختلفة، وكذلك هو موجود في الاستعمال اللغوي بطرائق عديدة. ولعلّ العلاقة بين الماء والنهر هي أقرب ما تكون إلى علاقة عامّ بخاصّ أو مطلق بمقيّد. ومن هنا تُبرز لغة الديوان، منذ النصّ الأول، رغبة جامحة في قصّ أجنحة التأويل البعيد عبر محاصرة الكلمات ذات الدلالات المتعددة، فالماء ينحصر في نهر، ولكنه نهر من نوع خاصّ جدّا.
إنه نهر مشتقّ من «شريان» فمن اتساع دلالة الماء إلى انحصار دلالة النهر ، نصل إلى انحسار دلالة الشريان، حيث يدلّ على الدم. فكأنّ الماء ينقلب دما، وتلك عملية انتقال في الخلق، وكأنّ القصيدة تحاكي عملية الخلق، عبر تحويلات دلالية وعمليات تضييق في الدلالة بين لفظة وأخرى:
الماء/ النهر/ شريان
وهو انتقال من الطبيعة إلى الإنسان، مع احترازنا من هذا التصنيف الكلاسيكي المستمدّ من الأنثروبولوجيا التقليدية، فالإنسان كان وما يزال من الطبيعة، ما هو بخارج عنها. ولكن جرى هذا التعبير الذي يقابل بين الطبيعة والثقافة مجرى تيسير الفهم. إنه انتقال من الطبيعة إلى الجسد، وتسمح الدلالات الحافة بتبيّن ضرب من «التشبيه» بالمعنى الكلاميّ للعبارة.
النصّ يقوم على محاولة تمثّل النصوص المقّدسة من حيث بنية النصّ ومن حيث استخدام الضمير واستعمال بعض المفردات المتعلقة بالخلق... فضلا عن عنوان النصّ (تكوين1) وكأنه السِّفر الأول وهو سِفْر التكوين في الكتاب المقدّس. وإذا أضفنا إلى ذلك تمثُّل العنوان لآية من القرآن، وجدنا هذا الهاجس التناصيّ في أوج اعتماله. فما دلالة ذلك؟
هل تريد الشاعرة أن تُعجز القارئ عبر تحدّيه بالنسج على منوال النصوص الدينية؟ هل تريد أن تكتب «إصحاحا» أو تضع «آية»؟ وما الغرض من ذلك؟ هل إجادة الشعر تقتضي هذا الإجراء؟
لعلّ المحاولة التي تريد دهنيم أن تصنعها تقوم على إبهار القارئ منذ الصفحات الأولى بجرأة على استلهام أجواء مقدسة، ليكون القارئ على بيّنة من كونه ليس أمام نصّ عاديّ مسالم ولا أمام تجربة مهادِنة، بل الأمر يتعلّق بمحاولة جدّية لا لمحاكاة النصوص المقدّسة أو لمعارضتها، ولكن لإدهاش القارئ وإقناعه بانتماء الشاعرة إلى طائفة الشعراء المتجرئين الذين لا يكتفون بمجاراة السائد، بل يقتحمون حمى نصوص أزلية وذات مكانة مخصوصة في وجدان المؤمنين. وهذه الجراءة تعني، بوجه من الوجوه، رغبة في الانغراس ضمن شعرية متمرّدة، لا تقتبس النصّ المقدَّس بل تأخذ منه جذوة وتنأى بعيدا، بحيث إنها تسعى نحو التفرّد عبر الانطلاق من مجال المشترك. فنقع في جدلية اتصال وانفصال، قوامها أخذ وردّ بين الكون والكائن.
الحديث بضمير الغائب يوحي بذات مهيبة قد لا يكون من العسير أن نفهم مقصد المتكلم/ الراوي أن يشير إلى الذات الإلهية. ولكن الإيحاءات الذكورية تبيّن أنّ الأمر معوّم غائم: هل هو رجل مُؤلـَّه أم إله مُؤنسَن؟
وما التشبيه بـ»نرسيس» إلا سبيل لتأكيد هذه المنزلة بين المنزلتين، حيث تعشق الذات ذاتها وتقع وفي حبّ خيالها في الماء.
الصور المتراكمة والمتناشزة توحي بفوضى لا يحكمها نظام، بل هي ركام وحشد من المشاهد المتداخلة كأنها صور استيهامية حلمية وفنتازية.
وهذا السلوك التخييلي القائم على تشظية الصور، يقوم على التناقضات:
شقّ من شريانه نهرا / أسَرته الأنوثة؛/ عينان تتثاءبان / في وله؛/ شامخا / يتداعى/ بين العنف واللين، وبين الملل والوله، وبين الشموخ والتداعي... إنه عالم من المفارقات والتناقضات العظيمة. ممّا يوحي بفقدان سيناريو طرازيّ جامع يحكم توليفة الألفاظ ويؤطّر دائرة المعاني.
الإيهام بالغموض وصناعة الالتباسات حتى يظنّ القارئ أنّ المرجع في نصّ العنوان هو نفسه المرجع في المتن. وهذا التماسّ المحفوف بسوء التأويل، مقصد من مقاصد الشعرية الحديثة. لتحقيق المفاجأة والإدهاش.
فضلا عمّا أشرنا إليه من تقنيات الجمع بين المتناقضات وتشظية الصور وخرق المنطق والوقوع في حالة الما بين...، واستعمال الضمير بطريقة توحي بنمط سرديّ أزليّ، فإنّ الإيحاءات التخييلية تعمد إلى شفافية كثيفة تغلف المجاز بالمجاز.
كيف يُوصف المرويّ عنه بالعجز والقدرة في آن: (يشرَق بوحدته) (ذات حزن)، من جهة، و(خلقها) من جهة أخرى؟ كيف يقدر على الخلق ثمّ يشعر بهذه المشاعر المنبئة عن العجز؟
إنه يترجح، عبر هذه التداعيات أن يكون الخالق بشريا، بمعنى أن الخلق مجاز للإنشاء الفني فهو مبدع، ولذلك جوّزت الشاعرة / الراوية / الواصفة تمثيله بنرسيس، وإلا فلا يستقيم تشبيه الخالق ببعض خلقه. ومن هنا يتبيّن اللعب على الكلمات فيصبح (عرشه) هو (شِعره)، وذو العرْش هو الشاعر، والوردة هي القصيدة التي يخلقها الشاعر (ينشئها) ثمّ يعشق نفسه التي قدرت على إنشائها، فيقع في نرجسية المبدع التي تؤكدها التحاليل النفسية، ووقوع المبدع في الحالة المرآوية أمر ليس بِدعا في حياة المبدعين.