الاثنين، 16 أغسطس 2010

الشاعرة سوسن دهنيم..


الغارقة في تشكيل التكوينات الميتافيزيقية مزاوجة المحاورة بين العقل الباطن وغموض الواقع
بقلم: سلمان الحايكي


لم أجد صعوبة تذكر في هضم كتابات الشاعرة الصاعدة سوسن دهنيم كونها من الجيل الحداثوي الذي يفجر الأشياء ويجمعها في لون واحد ويترك العنان لخيال القارئ كي يغوص في التفاصيل الصغيرة التي تُشكل غابات من الصور المتنامية تؤازر بعضها بعضاً وتسابق الزمن نحو تشكيل التكوينات الوجودية والسريالية.
قرأت لها في غضون مدة ثلاث مجموعات دفعة واحدة (غائب ولكن) صادر عام 1998 مشترك مع منى الصفار و(قبلة في مهب النسيان) عام 2002 وأخيرا (وكان عرشه على الماء) الصادر عام .2008
القراءات في مثل هذه الأنواع من الأشعار تجعلك تهيم مع الكاتب.. والشاعرة سوسن دهنيم ليست ككل من يكتب بناء على قراءتي لها لكنها متميزة في الكتابة التي تتراوح بين مخاطبة الروح ومحاورة العقل.. وعندها المخاطبة أشبه بمن يدفعك مجبراً إلى الصمت من دون أن تترك لك مجالا للحركة.. وفي المحاورة تتهم عقلك بالنبوغ والنبوءة والتوقع للإيقاعات الخفية التي تنطلق بهدوء وكأنها آلام إبر منعشة. وحين تجد نفسك أمام مخاطبة ومحاورة لا تملك من احساسك إلاّ الصمت والإبحار في اعماقها لاكتشاف الحقائق الوجودية والسريالية.





ما القصد من الحقائق الوجودية والسريالية وهل تقصد الشاعرة المزاوجة بين هاتين الفلسفتين في الإبداع الشعري أو الصور الشعرية، وما هو دور اللغة في التكوينات؟؟.
إن التحليل الوجودي للكون ليس كما هو الحال عند سارتر.. وعند الشاعرة سوسن دهنيم يختلف الوضع الرؤيوي.. فالوجود عند سارتر مجرد تكوينات خارجة عن نطاق الوعي الإنساني في حين الوجود عند الشاعرة فهم مترابط للمحسوسات التي تعيشها هي وتحاول أن تعكسها على الوجود بلمحات اللغة.
في اللغة لمحات وماديات ومحسوسات وفي الشعور الداخلي نماذج أقرب إلى الخيال.. وفي الشعر تجد نفسك أمام أشياء متناثرة إن تمكنت من جمعها ستضع نفسك في بؤرة الوجود المفترض والذي تعمل على صناعته الشاعرة داخل احاسيسها. إن التقنية اللغوية في الشعر لا تشترط اللوغرتيمات أو المصطلحات الشاذة والمتداخلة في الصور والتي أزعم بتسميتها مجازاً انفلات اللغة نحو هدف غير مرسوم في الخارج لكنه مرسوم في داخل الصانع أو الشاعر.
إن الشرط التقني اللغوي عند سوسن دهنيم هوانفلات التكوين فالشاعرة تجد نفسها محاطة بسياج الرغبة في التحرر اللغوي لكنها تصطدم بمكوناتها الذاتية الساكنة والتي قلّما تتخط السياج المفروض المصطنع من الشاعرة نفسها.
وهناك الصور السريالية التي تجوب نصوص سوسن دهنيم بارادتها أو العكس إذ لايمكن فصل الإرادة عن الرفض فهما يتنازعان مكاناً واحداً وسرعان ما يتفقان على احتلاله ويصبح بالنسبة للمتلقي صراعاً شاذاً، لكن على العكس من هذا المفهوم فإن الصراع هذا يولد الحمم الشعرية والبركانية في اللغة وتتشكل الصور المتنافرة والمترابطة وتعطي الجو العام للقصيدة آفاقاً وأجنحة تطير بذهن القارئ للخيال البعيد أو ما نسميه الفكرة الميتافيزيقية لما وراء الكون البشري العام والخاص.
البحث عن الصور الشعرية في التكوينات (غائب ولكن) تجيد الشاعرة سوسن دهنيم اجتذاب الفكر بالسحر اللغوي الذي يخدم الصورة الشعرية وهي تستخدم كل القواعد الشعرية المنصوص عليها في النص الفني.. وقلما تجد نصاً يخلو من التكوينات التي تجمعها في نسق متلاحم أحياناً أو مفكك في أحيان أخرى وعلينا أن نقرأ صورها في (غائب ولكن)
- تتشجر القلوب على حافة الذبول.
- فأنت البعيدة الوحيدة التي قادتني إلى قارعة الجنون.
- لو كان للمنامة رقصات الجنون
ولفجر المحرق أزهار عاشقة
لو كان لنا ذاك
لما انتحرت رغباتنا.
- فهنالك قوت شهي
ينتظر منا أن نجوع (اندريه جيد)
- حين يتكلم الصمت
تعلن الأرض الحداد.
- مطار الأرق (عنوان شاعري جميل) في الصفحة (43) ينم عن رؤية عميقة جداً بالمحسوسات المادية وتحويلها إلى كائنات جمالية.
- قصيدة (اعذريني) تعكس الموسيقى الهادئة التي ترتدي الإيقاع المنظم والمسموع عن كثب.
قبلة في مهب النسيان.. مقاربات أخرى
- أيها القارئ عذراً
إن تبنيت البكاء
أو غلا في القلب حزن
أو سرى في الروح داء
فبكائي أزلي
مثله كان الشقاء
أستميح العذر إني
قبل أن يقتلني الحزن
ويفنيني البلاء (ص 7).
ذلك نص متسارع ويضعك أمام موهبة لها ذائقة الموسيقى الصاخبة أو الهادئة سيان.. فالفعل الموسيقي يُكوّنُ التمحور الذاتي ويبعث على النشوء والارتقاء بالحواس ويساعد الشعر على تحدي المادة الجامدة وتحويلها إلى نشاط ذهني طبيعي.
- مشتاقة..
وذاك الضباب يغزو السرير
- انثري ربيعاً وبعثري..
نموذج من الطابع الفسيولوجي الغرائزي والغرائبي حين يسيطر العقل على مكوناته ولا ينفك يصارع ما يعتريه من صرعات تفاجئ الروح والعقل.
- النص (دقيقة حداد) ص 16/17 تعكس التطور الموضوعي الناضج لمفاهيم الشاعرة من خلال القبض على الصور المتماسكة وهذا ليس موضوعنا الحالي.
- ربما الليل يفضح البلاد.
- نحن الذين صادقنا الجراح
نسجنا الآه في اللغة
ومحونا الأبجدية.
- النص (قروح على تربة وطن):
- أتصفح الجراح ببطء
بين وريقات الشجر المر
على بقايا مولد في محرقة الجسد
أراه يضيع من بين عيني
وطن لا لون له.
تبدأ الشاعرة بالتكوينات الذاتية الشعرية لكنها تفقد زمام الأمور وتنساق نحو الألوان الباهتة التي لا تجد قاعدة التكوينات ساخنة وتمنح على التوالد الملحمي.
- متى الأرض تفضح موتاها
وتهدي الزنبقات شذا فردوسي
يُعيد للنوارس أحلامها
وللسنديان ظله.
- ولي رقصة الموت على موانئ كتفيك.
- تراوغ الأيائل الطريدة.
- وكم في الجفن من سراب
وفي الشفتين من وحشة
لكأنك تستجدين النص.
- وطن في عتمة الحواس يتجلى.
- وكم اشتهينا أن نكون له وطن.
- أُذبلت الورد في الدرب
ومحوت الأبجدية.
- صيف يبعثر صقيع القلق.
- وبالأعين كوكبة من ألم.
- أنا وطن لا ليل وراءه
ولا نهار يزيح ظلامه.
- أنا وأنت والعصفور
نتشاطر رغيف الدمع.
في التكوينات الخاصة بالعلاقة مع الوطن لا نجد العمق الديالكتيكي للشاعرة فهي تعوم على سطح القضايا الكثيرة التي اقتربت منها وأرى أن الثقافة الثورية والحس الميداني الوطني لا يزالان ينموان في وجدانها وهي تحاول تشكيلهما بالأنماط التي تقترب من أنماط الشاعر قاسم حداد وخطوط الروائي عبدالله خليفة وباستحياء تلج التكوينات الخاصة بهذه المسألة الحيوية الحادة.
تكوينات ميتافيزيقية
سنلاحظ من خلال المقارنة بين المجموعتين السابقتين وهذه المجموعة أن الفارق كبير بينهما وأجزم أن هذه المجموعة تشهد تطورات مذهلة في اصول التكوينات التي تميل إلى الميتافيزيقيا أكثر من ميلها إلى الرسم الواقعي أو الحراك الاجتماعي فالشعر كمفهوم فوق طاقة البشر يستحضر الكائنات غير المرئية البعيدة عن ملامسة الواقع والتي لانجدها تعيش بين ظهرانينا لكنها تستقي المفاهيم التكوينية المدهشة من الواقع لكن بوجوه مطلية بمساحيق مثيرة تجعلك تتخيل ماذا يحدث حولك وتثير التساؤل كيف للشاعرة أن تتعايش مع أوضاع ميتافيزيقية كهذه وأنى لها اكتشاف ماوراء الطبيعة وهذه أسئلة مشروعة في ظل فلسفتها الدقيقة الرامية إلى اكتشاف العمق البشري المختبئ في انسانها المجهول.
علينا أن نقرأ لنعرف الإجابة من صاحبة العمل بالذات:
- سال فيه شلال من دموع الإله.
- فجر زمزم شفتي والعق عذوبته فبينهما ينبوع بنت العصافير قربه اعشاشها.
- تعال، فالغرق ليس لي
والنور مازال لك.
- ويلبس الأنبياء ثوب الغرباء
يتعرون من الحكمة.
هذا مقطع غزير بالتكوينات الميتافيزيقية لما وراء الطبيعة فالشاعرة تصف شيئا بعيدا عن مشاهدتها له لكنها بغريزة التعمق في ما وراء الكون تقدم شيئاً ينهض بالحياة.
- فلا الحب يغرق الورد
ولا الورد يعرفك.
- يا ماءً يقطر من جبين الليل
كلما اشتعل الندى بين احضانه
أما زال الوصل مقترنا بسفائن تنوح
كلما هاج بها البحر؟
ظللنا نبحث عن قنديلك المبحوح
ذات مطر
ما زارنا اللهو ولا غنّانا البكاء.
وتواصل الشاعرة الحفر في بحر ماوراء الكون والطبيعة فتقول:
- وطن كان فيما مضى يتربع على عرش
من ماء
اغتيل وما بقيت إلاّ رئتاه.
مادة خصبة كهذه في الشعر تنقلك من مجاهل الواقع إلى أعماق السماوات من دون أن توقفها غرائز الخوف من الاقتراب من عالم مجهول يفترض أن يهيمن على مشاعرها لكنها تتجاوز المشاعر بفك الطلاسم الأبدية.
- راودتهم سبع غيمات عن امطارها.
- يغدر بقلبه كلما اغتاله النبض.
- أو كل هذه الأبجدية تتضرع إليك لاقتناصها
ولاتأتيني إلاّ عيناك؟.
- أيها الصاخب في صمته
أنت في المهب
تذروك الروح
وتلملمك الأمطار.
- كمن يحشر الورد
في قميص مطرز بالعناق.
ختاما..
لا يمكنك التوقف عند محطات الشاعرة وتكويناتها الميتافيزيقية مالم تذيب الروح والحواس في أعماقها المليئة بالمتناقضات الطبيعية وكلما تناقضت الوانها جاءتك بثوب، لها طعم الفصول الأربعة وغيوم الصيف المريرة.
إنها الشاعرة سوسن دهنيم ذلك الصوت الهادر بالتكوينات والذي يفتقد عنصر الكشف عن جريمة الكون البشري في المجتمعات الإنسانية الآيلة للعبث بمقدرات هذا الإنسان المجهول الباحث عن هوية البقاء.
القراءة في أعماق الشاعرة أفضل بكثير من القراءة الذهنية فوق الورق.. إنها تزاوج المحاورة بين العقل الباطن وغموض الواقع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق